تحوّل إحداثيات الصراع الفكري وحرب المواقع
محمد المعوش محمد المعوش

تحوّل إحداثيات الصراع الفكري وحرب المواقع

الصراع الفكري هو انعكاس للصراع المادي السياسي ويُعبّر عن الخصوصية التاريخية لهذا الأخير. وهذه الخصوصية نابعة من دور الإيديولوجيا السائدة الهادف للتعمية على الواقع وتشويه قوانينه، وتشويه عملية التغيير بالضرورة. واليوم هناك خصوصية وتميّز للأزمة الرأسمالية التي تُحدد شروط الصراع التاريخية، وآفاقه، وتُحدد بالتالي خصائص عملية التعمية تلك.

سريعاً عن خصوصية الأزمة

خصوصية الأزمة أخذت كثيراً من النقاش والتعمّق. أي كونها أزمة عميقة للرأسمالية، ليس كأزمة دورية فيها، بل كأزمة نهائية. أي أن إمكانية إعادة إنتاج الرأسمالية فقدت هوامشها (هوامش التوسع السابقة)، فهي قد استهلكتها كلها، على مستوى الطبيعة والإنسان. وإذا أخذنا هوامش توسعها على مستوى الإنسان للتدليل على انغلاق هوامش التوسع: كانت الانتقالة من الاستغلال المادي المباشر، إلى مستوى معنوي أعمق يتشارك مع الاستغلال المادي، وتمثّل في الليبرالية الفردية التي أطلقت حركة الذات، ولكن منعتها من التحقق، تلك الانتقالة استنفدت مستويات التوسع على صعيد الفرد، وهي لذلك اليوم صارت مهددة للبنية العقلية والجسدية للفرد.
إذاً نحن أمام أزمة موضوعية مادية في المجتمع، كنمط حياة شامل. ولهذا قلنا سابقاً ومنذ سنين أن حلّ هذه التناقضات العميقة يتطلب ليس فقط تحولات كميّة في الرأسمالية، بل تحولاً نوعياً في نمط العلاقات الاجتماعية التي هي تعبير عن نمط من علاقات الإنتاج، باتجاه الاشتراكية، بالمعنى الممارسي اليومي لحياة الناس على صعيد أدوارها وعلاقتها بالعام، بنفسها وبغيرها، أي ولادة معانٍ جديدة للحياة تحمي الإنسان أولاً من الدمار الوجودي، وتحرر طاقته الكامنة، أي قوة عمله التي شفطها العمل المأجور الرأسمالي، وحطمها في ذات الوقت (مثالاً، مراجعة مادة قاسيون: تدمير قوة العمل وحدود الرأسمالية). أي عدم كفاية إعادة توزيع نسبي للثروة كما حصل في الموجة الثورية الأولى خلال القرن الماضي، عدا بعض خصائص الحكم الشعبي في التجارب الاشتراكية، أي نموذج حياة يتحوّل عن اقتصاد السوق والاستهلاك والعمل المأجور والإنتاج البضاعي المغرَّب، هذا النموذج الذي لم يكتمل تطوره. وها نحن اليوم أمام مفترقٍ تاريخي بسبب هذه الأزمة بالذات، إما الفناء (وليس فقط الوحشية) أو الاشتراكية.
الصراع قبل الكورونا بين التجريب والتجريد
لم يكن هذا التوصيف مقبولاً لدى أغلب قوى التغيير في العالم، قبل الإنهيار والتعطّل في نمط الحياة على الكرة الأرضية قبل الكورونا. أي أن هذا التوصيف للأزمة لم يكن واضحاً للعين التجريبية، وكان يحتاج إلى مستوى من التجريد لم يكن سهلاً على جميع من هُم في موقع التغيير. وهذا سببه أن الفكر المحصور في “نخبة” لم يملك قدرة التملك النقدي لواقعه، فهو أيضا خاضع لعملية التعمية الإيديولوجية في ظل الليبرالية. ولكن فجأة، وفي لحظة صدمة تجريبية، انفرج الكامن في الأزمة للعين التبسيطية الميكانيكية، وصارت الاشتراكية ممكنة لا بل صارت الشعار الأساس، عجبي!

إنجلز وعملية التسلّل بين المواقع

ما حصل يحمل جانبين، الأول: هو إثبات صوابية الرؤية التي كانت مغيّبة طوال السنين الماضية لدى قوى التغيير (التي يتموه فيها الفكر الرأسمالي بلبوس “ثوري”) كما لدى قوى العدو الطبقي المباشر. والثاني: هو الجانب الخطير، وهو إخلاء للمواقع (بشكل واعٍ أو غير مقصود)، من قبل الفكر غير الماركسي على كل تنوعاته. نشدد على هذا الفكر لأن الفكر الرأسمالي الصريح يواجه صعوبة في الدفاع عن مرافعاته حول صوابية الرأسمالية ونموذجها. فمواقع العدو الرأسمالي الفكرية سقطت تحت ضربات الأزمة الموضوعية وحضور تباشير عالم جديد يلوح في الأفق، ومؤشراته الدولية السياسية الفوقية واضحة، وتحديداً عبر روسيا والصين.
لهذا هناك مواقع (عدوّة) سقطت، وهناك مواقع، لفكر التغيير غير الماركسي، قد تم إخلاؤها، أو بالأحرى تم تمويهها بيافطة الاشتراكية. فانجلز اقترح، في مرحلة صعود الماركسية، أن الفكر غير الماركسي تبنى الماركسية شكلاً، لكي يناقضها من داخلها، كونه لم يعد قادراً على مواجهتها الصريحة.

أيّة اشتراكية وأيّة ممارسة؟

إن الانتقال بين المواقع لهذا الفكر غير الماركسي لم يحصل معه انتقال منهجي، أي أنه حصل في ذات العدة الفكرية السابقة لهذا الفكر. وهذا يعني أن الجوهر النظري للموقف الجديد لا زال مفقوداً. وبالتالي، فإن الممارسة الجديدة ستبقى محكومة بذات المسار السابق لهذا الخط غير الماركسي. فالتخلي عن الماركسية- اللينينية يكون واضحاً ليس فقط في الاستراتيجية، بل على المستوى التكتيكي أيضاً. هذا نراه في أداء غالب هذه القوى في تعاملها مع الحركة الشعبية، ومع الانتفاضات التي حصلت. فالسائد فيها كانت العفوية، أو الصبيانية والمراهقة، كتعبيرات عن “مرض اليسارية الطفولي” الذي أشار إليها لينين.

لينين وحرب المواقع

إن الصراع الإيديولوجي إذاً له خصوصية مميزة اليوم، فانغلاق الهامش التاريخي للرأسمالية مادياً يعني انغلاق هامش فكرها المعبِّر عنها. ولكن هذا لا يعني أن هوامش المناورة الأخرى التي يتحرك فيها الفكر غير الماركسي (الذي هو تعبير ومكوّن عن المجتمع الرأسمالي، وعلاقاته وقواه الطبقية من برجوازية صغيرة تحديداً) قد انتهت، ولكنها ضاقت وهي أقل مما كانت عليها في القرن الـ 19 والـ 20، بسبب عُمق الأزمة الرأسمالية وخصوصيتها.
هذا يعني أن اليقظة الثورية تتطّلب ترسيماً جديداً لحدود الصراع الفكري- السياسي، يكشف تمويه وإخلاء المواقع التي يقوم بها الفكر غير الماركسي. فهذا له أهمية حاسمة في تحقيق عملية التغيير وإنجاحها، حسب شروط الصراع في كل دولة، لا الشعارات.
بنية الفكر الرأسمالي تنهار، ويمتد ضعفها لفرعها “الثوري”. لندكّ تلك المواقع.

معلومات إضافية

العدد رقم:
962
آخر تعديل على الإثنين, 11 أيار 2020 12:51