عن أية «منجزات» استعمارية تتحدثون؟!
أحمد علي أحمد علي

عن أية «منجزات» استعمارية تتحدثون؟!

في هذه اللحظات التي تُعيد فيها القوى الوطنية التركيز وتوجيه الأضواء على تفاصيل مهمة من التاريخ الوطني لتُبقي هذا التراث والتاريخ حيّاً وخالداً في الذاكرة الوطنية، تُعاد الكَرّة مرة أخرى من تلك الجهات أو الأفراد لطرح أفكار إشكالية لا تخدم في نهاية المطاف مصلحة الشعب والوطن..

في هذا الإطار؛ يطرح البعض أحاديث مفادها: أنّ الاستعمار الفرنسي لسورية ترك وراءه «منجزات حضارية تُرفع لها القبعة»! وقد تسمع على لسانهم: بأن فرنسا قامت بإعمار البناء الفلاني مثلاً، أو قامت برصف ذلك الطريق في مثال آخر، وأحياناً يأخذ الطرح شكلاً مغايراً بحيث يجري الحديث بأنه كان هناك جنرالاً فرنسياً في المنطقة الفلانية، وكان ودوداً وله سُمعة طيّبة!

مواقف غير وطنية..

في الحقيقة، أغلبية تلك الطروحات تنطلق من قاعدة إشكالية جداً في صياغة الموقف من المستعمر؛ وهي المقارنة بين المستعمرين الذي قاموا باستعمار المنطقة عبر التاريخ، وفي الحالة هذه فإن المقارنة تجري بين أيام الحكم العثماني وأيام الحكم الفرنسي في سورية...
وفق هذه القاعدة؛ يصل هؤلاء لنتائج ليست إشكالية فقط، بل كارثية ومشينة بالمعنى الوطني أيضاً؛ يصلون إلى حدّ تبرير الكثير من تصرفات العدو واعتبارها استثناءً عن القاعدة خاصتهم؛ والتي تقول بأفضلية مستعمر على آخر، والمِسْك في ختام التبرير: «لو استمر هذا المستعمر الفلاني لما كنّا هنا وكان وضعنا أفضل بكثير»!
لو فرضنا جدلاً بأن هناك بعض الأحجار التي رصفتها أيدي المستعمر على هذه الأرض، دعونا نتساءل سويةً: هل حقاً يمكن تسمية بضعة الأحجار هذه بالـ «المنجزات»؟! لا، هذه استثمارات وليست منجزات، وهذه التسمية ليست تعبيراً عن مزاج الكاتب ورغبته، هي بالفعل كذلك لأنها أفعال لأغراض استثمارية، بمعنى آخر؛ هي أفعال لها أهداف ومن ورائها غايات.

حول الأهداف والغايات؟

الأمر مرتبط إلى حد بعيد بأحلام المستعمر نفسه؛ فالمستعمر- أي مستعمر- حين يستعمر بلداً ما، لا يفكر بالخروج منه، بل يفكر– على الأقل في البداية- بالمكوث إلى الأبد، وبالتالي يسعى بشكل محموم لثبيت أقدامه عبر مشاريع ما صغيرة هنا وهناك، بحيث تعطيه هذه المشاريع الشرعية الدائمة في إدارتها، وبالتالي الشرعية في البقاء على الأرض، ما يعني بأن تلك المشاريع إن حصلت فهي حصلت لأغراض سياسية؛ لتخديم أحلام الخلود الاستعمارية، وهذا من ناحية أولى..
من ناحية أخرى؛ يكمن وراء تلك المشاريع أغراض اقتصادية، تخفي ارتهاناً مطلوباً من البلد المستعمَر؛ ارتهان لمتطلبات سوق البلد المستعمِر، لمتطلبات نموه وربحه، ارتهان لوصفاته الاقتصادية، لرؤوس أمواله، لشركاته، والقائمة تطول...
وبالترابط مع الأغراض الاقتصادية؛ هناك أغراض اجتماعية لا يمكن أن نغفل عنها؛ فالتأثير على الوعي الشعبي العام أحد أهم آليات عمل العدو؛ وهذه الآلية بالتحديد كانت تبدأ عملها في أغلب الأحيان قبل أن تطأ قدم جندي واحد البلاد المستهدفة، من خلال بعثات ترسلها الدول الاستعمارية، تحت يافطات وشعارات معينة لها طابع اجتماعي غالباً، للتعرف من خلالها على ثقافة الشعب المستهدف، وعاداته وتقاليده بكل تفاصيلها الدقيقة التي لا تخطر على بال أحد، وكلّ هذا كان يحصل بهدف التمهيد للسيطرة المطلقة على وعي وتفكير هذا الشعب، وبالتالي الوصول إلى رضوخه الكلّي أمام إرادة المستعمِر..

سؤال مشروع حول الهوية؟!

بناءً عمّا سبق كلّه؛ فإن تلك العقلية والطريقة في تحديد الموقف من المستعمر؛ عقلية مشوبة بأدران المستعمر ذاته، ولها خلفيتها التي هي في أغلب الأمر مصالح مستمرة مع المستعمر الفرنسي منذ أيام الاحتلال. فمن المعروف بأنه هناك من ما زالوا يتمتعون حتى اليوم بامتيازات على أرض المستعمِر في أمور عدّة كالحصول على الجنسية أو التعليم المجاني على سبيل المثال: عوضاً عن كونهم وأبنائهم هم من يتصدّرون قائمة رجالات الأعمال في المشاريع الاقتصادية بين البلدين. وهؤلاء بالتحديد؛ من المشروع للشعب السوري اليوم أن يسألهم عن هويتهم الوطنية من جديد؟ لأن من يسعى لتلميع وتحسين صورة مستعمِر لا يختلف كثيراً عنه في فقه السيادة الوطنية، وهو بالعمق امتدادٌ له.. ومن المفيد جداً التذكير بأن هناك عدداً من التجار قاموا بفكّ البغال عن عربة «غورو» عند دخوله دمشق، وربطوا أنفسهم مكانها، ولهؤلاء ذاتهم أرسل «غورو» في صباح اليوم الثاني من تلك الحادثة هدية تاريخية ثمينة تليق بهم: أكياس من التبن!

جروحٌ نازفة..

نودّ الإشارة هنا إلى أنّه هناك الكثير من الوطنيين الشرفاء الذين يردّدون هذا الكلام بشكل ببغائي، وعن طيب نيّة وسوء تقدير لمدى خطورته، ولهؤلاء نقول: إنّ كلامنا هذا هو بمثابة دعوة لهم لإعادة النظر بمثل هذه الأقاويل والانتباه لمدى خطورتها على كامل الإرث السوري الوطني، والهوية الوطنية. وفي هذا السياق، ينبغي التأكيد بأنه لولا دور قوى الظلام والفساد الكبير في سورية وإصرارهم طوال عقود في التعتيم على الرموز الوطنية وعلى دورها وأهميته عبر تاريخ سورية كلّه، لما كان من السهولة تمرير وقبول مثل هذه الأقاويل، فهذا السلوك يعكس في العمق حجم الجروح الكبيرة النازفة في الهوية الوطنية، ويضع مسؤولية كبيرة على عاتق من سيعيدون بناء سورية حجراً وبشراً في المرحلة المقبلة؛ مرحلة التغيير والتحرير، تلك المرحلة التي ينبغي أن تكون فيها السلطة للشعب ومن الشعب ولأجل الشعب، الأمر الذي يتيح إعادة بناء الهوية الوطنية بالشكل الذي يليق بتضحيات الشعب السوري..

إهانة الشعب السوري مرفوضة..

أصحاب هذه الطروحات هم قلة قليلة جداً من السوريين، وعلى قلّتهم نردّ عليهم، لأن السيادة الوطنية والهوية الوطنية وكفاح أبناء سورية من الآباء والأجداد ضد المستعمرين والأعداء، والدماء التي نزفتها أجسادهم، ثمينة جداً بالنسبة للشعب السوري؛ تلك النضالات ليست مصدر فخر فقط، بل لا تزال تنبض القلوب بها حتى اللحظة، وتلك الدماء هي ذاتها التي تجري في شرايين وقلوب القوى الوطنية الحيّة حتى اليوم، ومنها تستمدّ هذه القوى حرارة النضال الضرورية لاستكمال المهمات الوطنية التي بدأ بها الأوائل؛ تلك النضالات الطويلة والمريرة، هي الماضي والحاضر والمستقبل بالنسبة للشعب، ولا نقبل قطعاً بأية إهانة توجه لهذا الإرث الوطني بأي شكل من الأشكال..

دوماً وأبداً: لا للمستعمر...

في النهاية، المستعمر هو المستعمر، والموقف منه واحد مهما كان دينه وديدنه، وأيّاً كانت أدواته الاستعمارية، وكيفما كانت أشكال سيطرته وطريقة حكمه؛ موقف الشعب السوري منه ثابت لا يتغير وقد صاغه منذ زمن بعيد: لا مكان للمستعمر على تراب هذه الأرض!

معلومات إضافية

العدد رقم:
962
آخر تعديل على الإثنين, 11 أيار 2020 12:48