الصين ــ روسيا... والحراك الشعبي في منطقتنا
قد يبدو العنوان غريباً، ذلك أننا إذا استثنينا ما جاء في صفحات هذه الجريدة من مقالات، فإن البحوث حول العلاقة بين الحراكات الشعبية في منطقتنا وفي دول العالم التي تشبهنا من جهة، والصعود الروسي والصيني عالمياً من جهة أخرى، قليلة جداً إن لم تكن معدومة، ولذلك لا يستطيع الكثيرون إيجاد ذلك التقاطع بين الحالتين للاستفادة منه والبناء عليه.
البحث في هذا الموضوع ليس ترفاً فكرياً، بل إن أهميته الحاسمة تكمن في فكرة أن مطالبنا- نحن الشعوب التي عانت الفقر والحرمان في ظلِّ دُولٍ هشّة- قد غدا لها أساس موضوعي لحلّها، أساس متمثل بأن العالم الذي نعيش فيه يتغيّر، وبتغيّره هذا يُحيل إلى التقاعد منظومة كاملة من العلاقات والبنى الإقليمية والمحلية التي كانت سبباً أساساً في قهرنا.
التغيير والظرف الدولي
لفهم الأهمية الحاسمة التي يلعبها الظرف الدولي إيجاباً أو سلباً بالنسبة لعملية التغيير، تكفي الإشارة إلى أنه في السابق، في النصف الثاني من القرن العشرين مثلاً، بلغ الاحتقان وعدم الرضا الاجتماعي في بعض بلداننا مستويات عالية، صحيح أنه لم يصل إلى عتبة الانفجار، لكنه كان موجوداً، غير أنه اتخذ من اليأس والإحباط سبيلاً للتعبير عن نفسه، وهنا يمكن ملاحظة الأثر الذي خلفته هذه الحالة لدى الكثير من الكتاب والأدباء حتى التقدميين منهم، وكذلك مراجعة «أدب الهزيمة» الذي اقتاتت عليه أجيالٌ عدة. والحال هنا أن إمكانات التغيير كانت معطّلة، حيث لم يكن ثمة ظرف دولي يحتضن حالة الاحتقان ويقدّم لها الأرضية المناسبة لحلها، واضطر الجميع أن ينحني للعاصفة بدرجاتٍ متفاوتة، و«العاصفة» هنا تعبير عن تزعم الولايات المتحدة للعالم وتفردها فيه بكل ما عناه هذا بالنسبة لنا من توغلٍ للسياسات الغربية في دولنا ومصالحنا.
لكن المشهد في العالم شرع في التغير مع مطلع القرن الواحد والعشرين، غزا الأمريكي دولاً عدة وهو مأزوم، وخرج ولا يزال يخرج منها وهو مهزوم. وعلى الضفة الأخرى من العالم، ثمة قوى دولية يتصاعد وزنها باستمرار، وفي القلب منها الصين وروسيا، وهي القوى التي لديها الاستعداد الكامل لمواجهة النفوذ الأمريكي بكل الأدوات السياسية والاقتصادية والعسكرية، بما في ذلك استعدادها لتغيير المعادلة في عددٍ من الدول التي عاث فيها الأمريكي فساداً وعزّز فيها بنى هشة جاهزة للانفجار والانهيار في أية لحظة. وهي الحقيقة التي تنبأ بها الشيوعيون السوريون باكراً، حيث جاء في وثائق المؤتمر الثاني للجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين السوريين عام 2003: «إن النظام الذي يجد في الحرب مخرجاً له، هو نظام يقف على أرضية الانهيار، مما يعني بدء تغير ميزان القوى لغير صالحه، أي لصالح قوى التقدم والتحرر والديمقراطية والاشتراكية، هذه العملية التي ستكون ضارية ومؤلمة ولكنها سريعة من وجهة النظر التاريخية... وإذا قلنا إن النصف الثاني من القرن العشرين كان فترة شهدت مدّاً لقوى الرأسمالية العالمية على النطاق العالمي، وبالمقابل جَزْراً للحركة الثورية العالمية مع ما حمله ذلك من مختلف التعقيدات والتشوهات والتشظيات، فإن بداية القرن الواحد والعشرين تنبئ بأننا أمام فاتحة عصر جديد، يمثل مرحلة انعطافية ستشهد انتقال المبادرة إلى أيدي القوى المعادية للرأسمالية مع صعودها المتلاحق الذي سيؤكد انتهاء مرحلة تراجعها والجزر الذي أصاب حركتها خلال عقود عديدة...».
الجديد وشروطه
في المقابل، ما هي المشاكل التي عانت منها الشعوب؟ إن أردنا أن نجري تقاطعاً بين الأسباب التي ساهمت في رفع مستوى عدم الرضا الاجتماعي في دولنا، فإننا سنجد الفقر والتفاوت، وسوء الخدمات، والمستوى المتدني من الحريات السياسية، والأنظمة التابعة للخارج سياسياً أو اقتصادياً أو كلاهما، والحروب وتبعاتها، متربعة على رأس القائمة.
هنا تحديداً يتضح التقاطع الكبير بين جوهر الحراكات الشعبية من جهة، والصعود الروسي الصيني من جهةٍ أخرى. ذلك أن في كل أسباب عدم الرضا الاجتماعي المذكورة آنفاً نجد للأمريكي «إصبعاً»، فهو الذي خلقها في حالات، وسهلها في حالاتٍ أخرى، أو استفاد منها بالحد الأدنى. في المقابل، فإن الصين وروسيا، بوصفها قوى دولية صاعدة جديّة في مواجهة النفوذ الأمريكي المتهاوي، مضطرة لخلق عالمٍ بديل عن العالم الذي كانت تتسيّده واشنطن، أي لمشروعٍ ونموذج جديد لا بد كي يكون «جديداً» من أن يأخذ مصالح الشعوب بعين الاعتبار. حيث المشهد أقرب ليكون: شعوباً تعترض على عالمٍ ترعاه واشنطن، وقوى صاعدة مستعدة لتغييره.
مصلحة متبادلة
ما هو هذا النموذج الذي يجري تغييره؟ إنه نموذج النهب الخارجي والداخلي، نموذج الدولار كعملة عالمية متحكمة، نموذج القمع التقليدي و«الناعم»، نموذج التبعية والإفقار والتهميش. وفي المقابل منه النموذج الذي ترفعه الصين وروسيا: التكامل بين الشعوب بكل ما يحمله هذا من منفعة اقتصادية مباشرة، ومن تعزيزٍ للبنى التحتية بما يرفع من مستوى الخدمات. تكاملٌ لا بد لتحقيقه من قطع الطريق على الغرب وسماسرته المحليين الذين يعيثون في دولنا فساداً وخراباً وقمعاً. وهذه الدول إذ ترفع هذا المشروع، فإنها بذلك تدافع عن مصالحها أولاً، إدراكاً منها أن أي مشروع دمارٍ أمريكي يستهدف دولنا إنما هو طريقٌ ترسمه واشنطن نحوها بالذات.
هنا يصير التفاؤل مفهوماً، ويخرج من كونه حماساً محضاً، ليغدو موقفاً سياسياً. وربما هذا ما يفسر أن الاحتجاجات التي تخرج في بلادنا تأخذ في بعض الحالات طابعاً احتفالياً. فالشعوب التي تخرج إلى الشارع، تخرج هذه المرة وفي جوفها شعور أن أحلامها ممكنة التنفيذ.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 954