افتتاحية قاسيون 928: ليس أمام تركيا حل وسط!
يرسم السلوك التركي المتناقض بين ملف الشمال الشرقي السوري وملف إدلب، وفي كل منهما على حدة، وبين الأفعال والتصريحات، لوحة تخبطٍ وارتباكٍ وترددٍ شديدة الوضوح، وضعت تركيا في موقف لا تُحسد عليه، حتى باتت تظهر بمظهر من يحاول إرضاء الجميع، فلا يلقى رضا أحد في نهاية المطاف، ولا هو يكسب نفسه ومصالحه حتى!
إنّ البحث في الأسباب المباشرة لهذا التخبط والتردد، ليس بالمهمة العسيرة، ويمكن تفسيره بشكل بسيط بوصفه محاولة تركية لانتزاع أكبر قدر مما تراه مصالحها الخاصة، من حلبة الكباش الدولي ضمن سورية. ولكن الوقوف عند هذا الحد لا يعدو كونه توصيفاً بسيطاً لما يجري، لا يسمح بتوقع المآلات، ولا يسمح تالياً ببناء المواقف والسياسات.
تكمن في عمق التخبط التركي ثلاثة عوامل أساسية، تلعب دوراً حاسماً في توجيه السلوك التركي وفي مآلاته:
أولاً: يُعبّر التخبط عن بقايا التموضع التاريخي الطويل لتركيا ضمن المعسكر الغربي، والذي لم تخرج منه نهائياً حتى اللحظة، ولكنها في الوقت نفسه خطت أشواطاً مهمة بعيداً عنه، وفي عدد كبير من القضايا، لا في سورية وحدها، بل وعلى صعيد الإقليم بأكمله، وعلى صعيد علاقاتها السياسية والاقتصادية. رغم ذلك، فإنّ عملية الانفكاك عن الغرب المتراجع، ليست عملية بسيطة يمكنها أن تمرَّ بسلاسة ودون اهتزازات لا مهرب منها. والسلوك التركي حتى اللحظة، لا يزال يحلم على ما يبدو بانفكاكٍ سلسٍ مع «صفر مشاكل».
ثانياً: بين آثار الاصطفاف التركي الطويل ضمن المعسكر الأمريكي، أنّ قوة القوى الموالية لواشنطن في الداخل التركي ليست مسألة يمكن القفز فوقها بسهولة، بل تحتاج إلى إرادة جدية لا يبدو أنها متوفرة بالقدر الكافي حتى اللحظة. يُعزز من هذا العامل، حجم المشكلات الداخلية المتعددة، والاقتصادية الاجتماعية منها بصفة خاصة.
ثالثاً: إذا كان مما لا شك فيه أن الاتجاه العام للتطور الدولي، واضح بالنسبة لتركيا نفسها، ويظهر في مواقفها من القضايا الإستراتيجية (المتعلقة بالسلاح وبالاقتصاد وبخطوط التجارة وبخطوط الطاقة) أكثر مما يظهر في القضايا الآنية والسلوك المباشر ضمنها (كما في إدلب والشمال الشرقي وغيرها)، فإنّ ذلك وحده لم يعد كافياً؛ إذ إنّ المواقف السياسية الصحيحة لا تكون صحيحة بصحة اتجاهها العام فقط، بل وبتوقيت وآجال تنفيذها. وفي ظل التسارع الهائل في اختلال التوازن الدولي ضد المصلحة الأمريكية الغربية، لم يعد لدى تركيا ترف أنصاف الحلول بين القطبين الصاعد والهابط، بل إنّ تخبطها الحالي هو تعبير مباشر عن فشل محاولاتها مَرحَلة تموضعها الدولي الجديد الذي تكشفه مواقفها الإستراتيجية، والذي يصطف وضوحاً ضمن (الحزام والطريق).
بكلام آخر، إنّ تسارع تمظهر التوازن الدولي الجديد على الصعد المختلفة، يضع تركيا على مفترق طرق حادٍ؛ فإما أن تحزم أمرها في انحياز كامل وواضح إلى صف المتقدمين، أو أن تتابع ترددها وتخبطها، حاكمة على نفسها من حيث لا تريد بالوقوف في صف المهزومين المتراجعين.
والتردد التركي الذي إنْ استمر واضعاً إياها في صف المهزومين، لا شك أنه سيؤخر انتصار الصاعدين قليلاً، ولكن قليلاً فقط...
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 928