السياسات الأمريكية حول العالم انطلاقاً من تقرير لـRAND  (1)

السياسات الأمريكية حول العالم انطلاقاً من تقرير لـRAND (1)

يبين الجدول المرفق، خلاصة تقرير أعدته مؤسسة RAND الأمريكية للأبحاث، تحت عنوان «إرهاق روسيا وخلخلة توازنها»، ونشرت موجزاً عنه في الشهر الخامس من العام الجاري.


أهمية التقرير

رغم أنّ المنشور هو موجز عن التقرير يقع في 12 صفحة، وليس التقرير نفسه، إلا أنّ أهمية هذا الموجز– رغم ما يشي به من تنميق واضح للأصل- تأتي بالضبط من أهمية المؤسسة الناشرة؛ فمؤسسة راند «غير الحكومية» ولكن الممولة من الحكومة الأمريكية في الوقت نفسه! والمنشأة عام 1948 من شركة طيران دوغلاس، ظهرت- عبر مفاصل مختلفة من الأحداث العالمية بوصفها- كصانع سياسات أكثر منها مؤسسة بحثية. وربما يذكر القارئ التقارير التي أنتجتها حول الأزمة السورية، وأهمها سلسلة «خطة سلام لأجل سورية» في أربعة أجزاء، والتي سبق لقاسيون أن وقفت عندها وبينت جزءاً من استهدافاتها، التي لا نزال نرى العمل جارياً عليها حتى اليوم، وعلى رأسها الحفاظ على النصرة، والعمل على عزل الشمال الشرقي عن الحل السوري، بحيث يبقى نقطة عالقة تُعيق الحل بأسره...

«إستراتيجية فرض التكاليف»

لا يخفي التقرير هدفه المعلن ابتداءً من وقاحة عنوانه: «إرهاق روسيا وخلخلة توازنها»، ومروراً بشتى المجالات التي يناقشها، ويعتمد في كل تلك المجالات على البحث عن فرص «إستراتيجيات فرض التكاليف»، ليقيس في كل منها مدى القدرة على تحقيق المطلوب في إرهاق روسيا، وما ينتج عن ذلك من مكاسب، وليوازن بين ذلك وبين الأخطار المتوقعة.
استخدام تعبير «إستراتيجيات فرض التكاليف»، أو Cost-Imposing Strategies، يعود إلى حقبة الحرب الباردة، وقد كان المقصود به، أنه في ظل عدم إمكانية خوض حرب مباشرة مع الاتحاد السوفييتي، فإنه ينبغي اللجوء إلى مجموعة من التدابير ترغم الاتحاد السوفييتي على دفع تكاليف باهظة في مجالات متعددة للإبقاء على التكافؤ العسكري المانع للحرب، تكاليف في المجالات العسكرية والعلمية، ولاحقاً في مجالات كثيرة متعددة بينها الإعلام والثقافة وحرب المعلومات وغيرها، تكاليف من شأنها أن تمنع تطوره وتخلق له جملة من الأزمات الداخلية التي بتراكمها ستؤدي إلى انهياره.
عاد المصطلح إلى التداول مع الأعوام الأولى من الألفية، في إطار نقاش أمريكي داخلي حول ما ينبغي فعله لمواجهة التنّين الصيني الصاعد، وبشكل خاص ابتداءً من العام 2005. وعاد استخدامه في مواجهة روسيا ابتداءً من 2012 بشكل واضح، وإنْ كان لم يغب عن التداول سوى لسنوات قليلة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي.

مجالات فرض التكاليف

يتناول التقرير مجموعة من المجالات العامة التي يدرس ضمن كل منها خيارات فرض التكاليف، وهذه المجالات هي (الاقتصادية، الجيوسياسية، الإيديولوجية والإعلامية، العسكرية: الفضائية والجوية، البحرية، الأرضية ومتعددة الوسائط).
وبعد أن يدرس التقرير عدة خيارات في كل واحد من هذه المجالات، ينتهي إلى خلاصته التي يمكن أن نراها مكثفة في 8 إجراءات يوصي التقرير باعتمادها بوصفها أفضل الخيارات التي يمكن لها أن تُرهق روسيا، وتخلخل توازنها مع أكبر المكاسب وأقل الأخطار على الولايات المتحدة، وهي المبينة في الجدول المرفق.

إنتاج الطاقة

الخيار الأول، المتعلق بتعزيز إنتاج الطاقة الأمريكية، يتضمن مجموعة من الاستهدافات، أهمها: تأمين الولايات المتحدة نفسها بعيداً عن آثار الاضطرابات التي ستعمل على إحداثها في سوق الطاقة العالمي، وفي طرق التجارة البحرية بشكل خاص، والتي تستهدف منها خلخلة سوق النفط العالمية، وتطبيق مزيد من الضغوط على الأوروبيين على أمل أن يتخلوا عن الغاز الروسي ويلجأوا إلى الغاز المسال الأمريكي الذي تزيد تكلفته بأكثر من 30% من كلفة الغاز الروسي عليهم، كما أنّ هذا الخيار يُفسّر تعاطي ترامب «غير المبالي» مع أزمة مضيق هرمز، وقوله بشكل صريح إن الموضوع لا يعنيه كثيراً باعتبار أن نفط أمريكا لا يمر من هناك...

تعميق العقوبات

تشمل سياسة العقوبات الأمريكية، والغربية عموماً، كل الدول المناوئة لواشنطن، وعلى رأسها روسيا والصين وإيران، وصولاً إلى كوريا الشمالية وسورية ودول عديدة أخرى. الهدف الأساسي من هذه العقوبات ليس منع تطور وصعود الصاعدين، لأن ذلك مستحيل، بل العمل على إبطائه قدر الإمكان، عِبر خلق جملة من الصعوبات أمام العمليات التجارية والمالية، ما يحد من الاندفاعة التنموية للشرق، وبشكل خاص الاندفاعة باتجاه الحزام والطريق، الذي بمجرد ثبتت أركانه، فإنّ الوجود الغربي في كامل آسيا وشمال إفريقيا إن لم يكن في إفريقيا كلها، سيصبح من الماضي. ورغم المخاطر التي يحملها هذا الخيار على الأمريكان لأنه يفتح باباً إجبارياً أمام الدول المعاقبة لتسريع العمل على خلق البدائل المالية والتجارية، إلا أنّ الموازنة بين وجود العقوبات وغيابها، وحسب راند، تبين ضرورة إبقائها وتعميقها، كخيار إلزامي لإبطاء السير نحو الحزام والطريق.
في هذا السياق نفسه، يمكننا فهم أحد الجوانب الجوهرية لأزمة هونغ كونغ، وربما جانبها الأكثر جوهرية؛ إذ إنّ الدفع باتجاه العنف هناك، وبدء التلويح الغربي بالتدخل، ربما سينتهي قريباً إلى اتخاذ المسألة ذريعة لفرض عقوبات جديدة على الصين، ولجرّ دول أوروبية للاشتراك في تلك العقوبات تحت مسمى حقوق الإنسان...

تعزيز الأساطيل البحرية

يعتمد منطق هذا الخيار على أنّ تعزيز حضور الولايات المتحدة وحلفائها البحري في مناطق النشاط الروسية أو قريباً منها، سيضطر الروس إلى تكريس مزيد من الإنفاق على قطاع الصناعات العسكرية البحرية، وهو ما من شأنه وفقاً لراند تقليل الإنفاق في مجالات عسكرية أكثر خطراً، ويبدو أن المقصود ضمنياً هو تطوير الصواريخ فرط الصوتية، إلى جانب السلاح الليزري وغيره من التقنيات الأكثر تطوراً.
جانب آخر يمكن فهمه لم يقله التقرير، أو على الأقل الموجز المعلن، هو أنّ تعزيز حضور واشنطن وحلفائها البحري، يتطلب استثماراً إضافياً من جهة الغرب أيضاً في الصناعة الحربية البحرية، والذي سينوب بخيراته المجمع الصناعي العسكري الأمريكي، لأنّ هذه الصناعات مرتبطة ببعضها ضمن الغرب منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، والاتفاقات التي وقعها الأوروبيون وخاصة فرنسا وبريطانيا مع الولايات المتحدة، والتي ترقى إلى اتفاقات إذعان في مجالات متعددة بينها المجال العسكري.
في الإطار ذاته، يمكن أن نفهم الفائدة الأمريكية المتوخاة من توتير مجمل الطرق البحرية حول العالم، سواء لجهة هرمز أو الحاف اليمني أو جبل طارق أو ناحية هونغ كونغ ومينائها، وبما أن الأوروبيين يعتاشون على تجارة البحار، فإنّ المسألة بالنسبة لهم مسألة وجودية، (نصف التجارة الأوروبية في العقد الأول من الألفية كانت عِبر البحر).

 

لقراءة الجزء الثاني:  

السياسات الأمريكية حول العالم انطلاقاً من تقرير لـRAND (2)

 

 

معلومات إضافية

العدد رقم:
927
آخر تعديل على السبت, 10 شباط/فبراير 2024 11:43