جانب آخر في مسألة «المنطقة الآمنة»
يبدو طريفاً السجال الأمريكي التركي العلني حول «المنطقة الآمنة»؛ فبعد تصعيدٍ وصل حدوداً تُنذر شكلياً باصطدام مباشر بين القوتين على الأرض السورية، جرى فجأة توقيع الاتفاق. ومن ثم وبعد التوقيع، عاد السجال نفسه ليشتعل، كأنّ شيئاً لم يكن، بل وكأنّ المقصود من الاتفاق ليس إلا إضافة مادة جديدة تحافظ على سخونة السجال نفسه، لا بل وتسمح أيضاً بزيادة حرارته...
لا يمكن فهم التوقيع إياه، إلا من وجهة نظر أوسع بكثير من الساحة السورية؛ فاستعصاء حل التناقض الأمريكي- التركي، بات أمراً واقعاً، ابتداءً بالموقف من ملف العلاقة مع روسيا ومع الصين والموقع ضمن مشروع الحزام والطريق، ومروراً بشتى المجالات الأخرى، بما فيها الموقف من صفقة S400 ومن اتفاقات إنشاء روسيا لأربعة مفاعلات نووية في تركيا، والموقف من الملف الإيراني، ومن العقوبات عليها، وصولاً إلى المواقف المتناقضة في شتى المسائل الإقليمية القريبة والبعيدة عن الحدود التركية، (سورية، السودان، ليبيا، مصر) وغيرها...
مصدر التناقض الأساس، بل والاستعصاء، هو العمل الأمريكي على دفع تركيا بشكل واضح باتجاه انهيار داخلي، بحوامل اقتصادية وأمنية واجتماعية، وحتى إيديولوجية، والهدف الأمريكي واضح لكل ذي نظر؛ إذ إنّ انهياراً تركياً، أو انزلاقاً باتجاه الفوضى الخلاقة، من شأنه أن يُحدث زلزالاً يلحق أضراراً ضخمة لا بتركيا وحدها، بل وبالقوتين الأساسيتين الصاعدتين، روسيا والصين، وحتى أنه سيكون قادراً على خلخلة التوازن الدولي المتشكل حديثاً، وإعادة عقارب الساعة، وإنْ مؤقتاً، إلى الخلف؛ وذلكم أقصى ما تحلم به الإمبراطورية الأمريكية هذه الأيام، شأنها شأن المتراجعين والمتهاوين، يُمجدون الماضي ويتمنونه مستقبلاً، لأنّ جعبتهم فرغت من المشاريع القابلة للحياة التي تطالب دائماً بما هو جديد.
من جهة ثانية، فإنّ حجم الترابط العميق المتكون عِبر العقد الأخير، بين كل من تركيا وروسيا والصين وإيران، وبشكل خاص بين تركيا وروسيا، بات من العمق والصلابة بحيث يمكن القول دون تردد: إنه تجاوز نقطة اللاعودة.
ضمن هذه الإحداثيات، يحتاج تناول «اتفاق المنطقة الآمنة» منطقاً مختلفاً ومقاربة مختلفة، عن تلك السائدة في معظم وسائل الإعلام، والتي تدفن رأسها في البحث عن اتفاقات تحت الطاولة عنوانها الشمال الشرقي مقابل إدلب؟!
الاتفاق فيما نعتقد، أو «التكاذب حول الاتفاق»، يعكس مسألتين أساسيتين، الأولى: هي نقل الصراع مع الأمريكي ضمن سورية إلى المنطقة التي يضع يده عليها حتى الآن دون منازع، أي: الشمال الشرقي، وينطلق منها لمد أصابعه في مختلف الجهات السورية، وخاصة إدلب عبر النصرة (التي نعتقد أيضاً، ورغم أن تبرئة تركيا من العلاقة مع النصرة غير واردة، إلا أنّ الدور الأمريكي في دعمها وتسليحها وتنظيمها وحتى تشكيلها، وإنْ عِبر وسطاء، هو الدور الأساس والمحوري، وتفضح ذلك تقارير مؤسسة راند وتوصياتها، أكثر من غيرها).
المسألة الثانية: هي أنّ الانحسار التدريجي للتأثير الأمريكي على الملف السوري، سيجد طريقه للتبلور عِبر أشكال متعددة، وظهر الآن بشكل أولي، عبر تنازل أمريكي شكلي و«قانوني» عن قسم من النفوذ ضمن الشمال الشرقي، وجاء هذا التنازل لتركيا بالذات بشكل مقصود، وتسعى من خلاله واشنطن للاستثمار في تراجعها الاضطراري، عِبر محاولة بذر الشقاق بين الروس والأتراك، أو بالحد الأدنى افتعال مشكلة تُعيق التقدم في الملفين الآخرين الموضوعين على الطاولة: إدلب واللجنة الدستورية.
الأمر الواضح في المسألة كلّها، هو: أنّ الاتفاق «الخُلّبي»، خُلّبي بكل معانيه وجوانبه إلا جانباً واحداً محدداً: النفوذ الأمريكي ضمن سورية إلى مزيد من الانحسار...
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 927