ماذا بعد «تلطيف الأجواء الإقليمية»؟

ماذا بعد «تلطيف الأجواء الإقليمية»؟

ظهرت خلال الأسبوع الفائت عدة إشارات على بداية تحول في خارطة العلاقات الإقليمية المأزومة، ليس بدءاً من 2011، بل وقبل ذلك بعقود...

بين هذه الإشارات يمكن أن نعدد:
زيارة وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف إلى سورية ومن ثم تركيا وما صرح به في تركيا من أنه «سينقل فحوى محادثاته مع الرئيس السوري إلى الرئيس التركي».
بالتوازي مع ذلك جرت جولة المبعوث الرئاسي الروسي ألكسندر لافرنتييف على عدة دول في المنطقة وبخاصة السعودية وسورية، وانتشر بعد ذلك وبكثافة خبر مفاده: أنّ لافرنتييف «حمل رسائل إيجابية من القيادة السعودية للقيادة السورية».
السعودية والإمارات ترسلان مساعدات إنسانية لإيران بعد كارثة الفيضان التي راح ضحيتها ما لا يقل عن 76 شخصاً.
نائب المرشد الإيراني والمسؤول عن ملف الحج والعمرة، يشيد بإجراءات السعودية المتعلقة بالحج خلال العامين الفائتين. ولا يجب أن يغيب عن البال هنا أنّه لم يمر بعد وقت طويل على اشتعال أزمة بين البلدين حول هذا الموضوع بالذات، عدا عن جملة الأزمات بينهما، وذلك عام 2015 بعد أن وقع ما يزيد عن 769 ضحية من الحجاج الإيرانيين خلال التدافع الذي وقع في موسم حج ذلك العام.
اجتماع رؤساء برلمانات العراق وجواره، والذي ضمّ كلّاً من سورية وتركيا وإيران والعراق والسعودية، إضافة إلى الكويت والأردن، وأصدر بياناً ختامياً لا يخلو من رسائل واضحة حول ضرورة التعاون بين هذه الدول جميعها.
وزير الخارجية الإيراني يكشف عن توصل طهران وأنقرة لاتفاق على وضع آلية تجارية شبيهة بالآلية التي وضعها الاتحاد الأوروبي للتعاون مع طهران بعيداً عن العقوبات الأمريكية.
حدة التصريحات التركية- السعودية حول مقتل خاشقجي شهدت تراجعاً ملحوظاً خلال الفترة الأخيرة، إنْ لم نقل إنها غابت من المشهد إلى حد غير قليل.
إنّ أي مؤشر من هذه المؤشرات، على تفاوت أهميتها، كان ليشكل بمفرده مادة للتحليلات والتوقعات والتفسيرات باعتباره حدثاً «خارجاً عن المألوف»، فكيف الحال وهذه المؤشرات جميعها قد جرت في بحر أسبوع واحد؟!
تجنباً لقفزة في الفراغ!
أول ما ينبغي تثبيته في نقاش هذه المؤشرات، هو أنّ الوصول إلى استنتاجات سريعة وثابتة بناءً عليها، ليس من الحكمة في شيء؛ فلا يمكننا القول ببساطة: إننا على عتبة انتهاء جملة النزاعات التي حكمت المنطقة طوال عشرات السنين، والتي لعبت الأطراف التي يظهر أنها تتقارب الآن، أو على الأقل «تلطف الأجواء فيما بينها»، دوراً فاعلاً فيها، في إطار التوتر والعداوة والتزاحم والتآمر، مثنى وثلاث ورباع...
وبكلام أكثر وضوحاً: لا يمكن قطعاً الافتراض مثلاً بأنّ السعودية قد قفزت من المركب الأمريكي، وباتت في ضفة أخرى بما يخص ملفات المنطقة المختلفة، وعلى رأسها الوضع السوري، والقضية الفلسطينية؛ فالمؤشرات السلبية، وفي هذه الأخيرة بالذات أكثر من أن تجمعها مادة واحدة.
إنّ طبيعة الصراعات العنيدة التي تعيشها منطقتنا، لها جذورها العميقة والمتشعبة التي لا يمكن بوجودها توقع قفزات سريعة وكبرى بأية حال من الأحوال، ولعل أهم جذور هذه الصراعات تكمن في النقاط التالية:
التركة المسمومة لسايكس بيكو التي خرج معها المستعمر الأوروبي مخلفاً وراءه كماً هائلاً من الألغام والقنابل الموقوتة على المستوى الداخلي للدول الناشئة نفسها، وبينها وبين كل دولة من الدول المجاورة لها، بل والتي في محيطها القريب والمتوسط أيضاً.
الكيان الصهيوني نفسه بوصفه جزءاً من ميراث الاستعمار الأوربي الغربي للمنطقة، وبوصفه مصدراً مستمراً لعدم الاستقرار ولإثارة النزاعات وللتخريب.
التبعية الاقتصادية للغرب عبر معادلات التبادل اللامتكافئ، والتي صانها ورعاها ضمن هذه الدول فاسدون كبار وسماسرة فرضوا النهب الاقتصادي على الشعوب المترافق مع القمع السياسي.
الفوالق الثانوية القومية والطائفية والدينية، التي جرى تركيز الضوء عليها وتغذيتها بهدف القضاء على مجمل دول المنطقة وتفتيتها.
التراجع الغربي
والحركة الشعبية العالمية
رغم سواد اللوحة السياسية لعموم المنطقة، وهو سواد حقيقي وواقعي وكثيف كنتيجة لاجتماع عوامل التخريب السابقة، إلا أنّ الجيد في الأمر هو: أنّ المشترك بينها جميعها أنها جرت في ظل عاملين عالميين كبيرين: أولاً: تقدم المنظومة الغربية وتراجع نقيضتها، وصولاً إلى انهيار الاتحاد السوفياتي وسيادة القطب الواحد الأمريكي، ثانياً: حالة السبات الجماهيري الموضوعية التي شكلت تاريخ النصف الثاني من القرن العشرين.
هذان العاملان الأساسيان، جذرا جملة الشرور التي أشرنا إليها آنفاً، ووصلا إلى نهايتهما التاريخية؛ الأزمة الرأسمالية تعصف بالمركز الإمبريالي الأمريكي بقوة لا سابق لها، والتقهقر الأمريكي والغربي على المستويات المختلفة بات واقعاً لا يجادل في حقيقته سوى الحمقى ومدفوعي الأجر. يتوازى ذلك مع تقدم مستمر ليس لقطب جديد كما يحلو للبعض أن يبسّط الأمور، بل لمنظومة دولية جديدة بالكامل تُبنى على أسس مختلفة اختلافاً عميقاً عن المنظومة الغربية التي سادت العالم خلال خمسة قرون مضت (رغم أنّ اختراقاً جرى خلال فترة الاتحاد السوفياتي، لكنه لم يصل إلى نقطة اللاعودة، كما بات معروفاً وبيّناً).
وهذا التغيّر في الموازين الدولية- وما ذهبنا إليه من وقوف العالم على عتبة دخول حقبة جديدة نوعية بعيدة عن معادلات القطب الأوحد، أو الثنائيات القطبية- محمول كله على الأساس المتين للحركة الشعبية العالمية التي لا تخصّ منطقتنا فحسب، بل العالم بأسره، وهي ظاهرة تاريخية ستمتد عقوداً ولن يتوقف تطورها واشتداد عودها، وتعمق تنظيمها، بل سيزداد باطراد.
أستانا
أفردت «قاسيون» مساحة شبه ثابتة خلال السنوات الثلاث الماضية، للبحث في معاني أستانا وأبعادها وأهميتها، ولعل من المفيد في سياق نقاش المؤشرات الجديدة التي نتحدث عنها أن نجمل هنا ما بينت قاسيون أنها النقاط الأكثر أهمية بين معاني أستانا:
منظومة أستانا أوسع وأبعد مدى وأعمق من كونها أداة في إطار العمل المشترك لحل الأزمة السورية، فهي أحد تعبيرات التوازن الدولي الجديد الذي تنهار بموجبه تحالفات وعداوات ومنظومات سابقة، لتتشكل أخرى جديدة.
منظومة أستانا هي أكبر اختراق شهده التاريخ الحديث في منطقتنا لمعادلة صراع الجميع مع الجميع التي خلفها الاستعمار الأوروبي وحافظ عليها وعمّقها الأمريكي من بعده.
تشكل المنظومة ضربة كبرى لمفردة أساسية من مفردات «الفوضى الخلاقة» الأمريكية، أي: الصراع «السني- الشيعي».
تمهد المنظومة بتطورها لوضع الأساس لاستقلال وتكامل اقتصادي ضمن الإقليم بداية وضمن آسيا ككل، يطرد خارجاً الأمريكي ودولاره، ويُنهي عقوداً من الاستعمار الاقتصادي لكل هذه البلدان، والقائم أساساً على التبادل اللامتكافئ بآلياته المختلفة وبأداته الأمضى: الدولار المدعوم عسكرياً ونفطياً.
ثم ماذا؟
إنّ الميل لعدم الاستعجال في الوصول إلى استنتاجات حاسمة وسريعة، هو ميل له ما يبرره بطبيعة الحال، وكذلك الإصرار على أنّ تغيرات كبرى بالحجم الذي تحدثنا عنه هنا، لن تتحول واقعاً إلا خلال عشرات السنين، هو رأي صحيح بلا شك، ولكن السؤال الذي ينبغي إمعان التفكير فيه: متى يبدأ عدّاد عشرات السنين تلك؟
ما نعتقده هو أنّ عدّاد «التراكم» بدأ عمله قبل حقبة زمنية غير قصيرة، وأن حجم التراكم ضمنه قد وصل حداً عظيماً يُبشر باقتراب النقلة النوعية، والمؤشرات الأولية التي نراها ونسمعها ليست سوى بداية خجولة جداً للآتي...

معلومات إضافية

العدد رقم:
910