الكومبرادور في الميزان الجديد

الكومبرادور في الميزان الجديد

يعتبر ميزان القوى الدولي الجديد، بداية تحول نوعي عالمي، فهو لا يخص العلاقات بين مجموعة الدول الكبرى فحسب، ولا يتوقف عند حدود العلاقات الدولية فقط، بل يترك خلال تطوره تأثيره الملموس داخل كل بلد على حدة، وعلى مختلف الطبقات والشرائح الاجتماعية، المستغِلة منها والمستغَلة، وذلك حسب خصائص كل بلد ومستوى تطوره التاريخي.

إشكالية النشوء والتطور
تعتبر شريحة الكومبرادور شريحة مركزية في الهرم الطبقي داخل البلدان الطرفية، لدرجة لا يمكن تحليل واقع هذه البلدان، وتفسير الظواهر الاقتصادية والسياسية والثقافية السائدة، دون الوقوف على دور هذه الشريحة، فهي بمعنى ما، جزء من منظومة الهيمنة الغربية عبر التاريخ الحديث، وإحدى أدواتها المحلية، ويمكن القول: إنها نشأت مع نشوئها، وتنامت وازداد دورها في سوقها الخاصة « بلدانها» استناداً إلى علاقتها مع ذلك المركز، وهي بالتالي عرضة لكل الهزات التي تصيب المركز الرأسمالي وقبل المركز نفسه، باعتبارها الحلقة الأضعف، في منظومة الهيمنة.
لم ينشأ الكومبرادور كبرجوازية بعد مخاض تاريخي وصراع تناحري مع النّظام الإقطاعي، ولم يأت بها تطور ثوري للقوى المنتجة كما حدث في أوروبا الرّأسماليّة مثلاً بالنّسبة للبرجوازيّة المنتجة. وهي لم تنجز ثورة اجتماعيّة بل ولدت بعمليات قيصرية من رحم الاستعمار المباشر أو غير المباشر، أي: أنها لم تلعب دوراً تقدّميّاً ولم تطور علاقات الإنتاج القديمة السّائدة في بلدانها، وإنما أبقت على تخلفها، وشوهتها أيّما تشوه.
كان من ضرورات استمرار دور هذه الشريحة، تنظيم علاقاتها مع جهاز الدولة، حيث لم تستطع أن تهيمن على هذا الجهاز بشكل كامل، بحكم بروز دور شرائح اجتماعية أخرى، كالبرجوازية الصغيرة مثلاً في بعض البلدان، وأخذ هذا التنظيم شكل الاتفاق على النهب، والاختلاف على تقاسم الحصص. كل يستمد قوته من مجاله الحيوي، فالكومبرادور له شبكة علاقات مفتوحة مع المراكز الرأسمالية، ومن ذلك يستمد قوة حضوره، أما البرجوازية الصغيرة فتستند على جبروت جهاز الدولة، وساعدت علاقة الأمر الواقع هذه على نمو شريحة اجتماعية جديدة هي البرجوازية البيروقراطية، ومرت العلاقة بين البرجوازيتين بأدوار مختلفة، إلى أن تماهت الحدود بينهما بعد انهيار النموذج السوفيتي، وسيادة الليبرالية الجديدة.
فأصبح الكومبرادور بشقيه الحامل الاجتماعي للمشروع الليبرالي حيث أصبح تصدير رأس المال الماليّ نحو الدول التابعة يحتلّ الأولويّة عند نخب الرأسمال المعولم، ليصبح الكومبرادور بمثابة أداة استيراد الرّأسمال المالي الأجنبي واستثماره ليزيد من تبعيتها، وليخضعها تماماً للاستعمار الدولاري، بحيث لا يستطيع الفكاك، إلا إلى القبر.
الأزمة تتكلم
الأزمة الرأسمالية العظمى وضعت الكومبرادور بشقيه المحدث والقديم أمام تحدييين وجوديين:
العلاقة مع المركز الرأسمالي، وهامش المناورة السابق المسموح به للحصول على حصته من النهب، حيث بات يتعرض لابتزاز واستنزاف شبه يومي، يمنعه من أية إمكانية للحفاظ على التوازن الاجتماعي حيث سلطته ونفوذه.. تركيا كنموذج.
العلاقة مع شعوبها: هذا الاستنزاف من قبل المركز، فجر التناقض الكامن مع الجماهير العريضة في بلدانها، وبشيءٍ من التحليل يمكن الاستنتاج وببساطة بأن الكومبرادور عاجز عن حل أي من التناقضين آنفي الذكر، فأصبح بذلك بين مطرقة الشعوب وسندان المركز المأزوم.
خلاصة الكلام: إن هذه الشريحة، في ظروف الأزمة الرأسمالية ستصبح حكماً خارج التاريخ، من حيث طريقة استحواذها على الثروة، بعد أن تقلصت حصتها، وتتعرض إلى ابتزاز مستمر من قبل المركز، وبذلك تكون قد فقدت كل مبررات وجودها، سواء كان من وضع صانعها الدولي، وراعيها وحاميها، ونمط العلاقات الدولية السائد سابقاً، أو بسبب عجزها عن إدارة «البلدان» المستعمرة دولارياً.