«الشرق الأوسط» الآخر
يترسخ عالم التعددية القطبية بتسارع لافت، ويترك تأثيراً ملموساً على مجمل العمليات الجارية في عالم اليوم، حيث بات بالإمكان الحديث في هذا الإطار عن وقائع يومية ملموسة في المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية، وفي مختلف مناطق العالم، ومن الطبيعي أن تكون ما اصطلح عليه بمنطقة «الشرق الاوسط» - وكما كان الأمر عبر التاريخ – إحدى خطوط التماس الأساسية في الصراع بين القديم والجديد، وإحدى ساحات تمظهر ميزان القوى الدولي الجديد.
ولمّا كان التوازن الدولي الجديد، عملية تاريخية مستمرة، فإنه من خلال عملية التراكم التي تحدث، وبعد انتقال القوى الصاعدة من حالة «الدفاع إلى الهجوم»، وطرح البدائل الواقعية، وتوفير الأدوات اللازمة للوصول إليها، سيؤدي بالضرورة إلى واقع جيوسياسي جديد في منطقتنا، وإلى حالة نوعية جديدة، فـ «الشرق الأوسط» القديم، بنسخته الانكليزية أصبح جزءاً من الماضي، و «الشرق الأوسط الجديد» بصيغته الأمريكية وصل إلى طريق مسدود، كون هذين النموذجين البائسين، - بما فيها مصير الدور الوظيفي للكيان الصهيوني، الذي يتلقى ضربات ذات طابع وجودي على يد الشباب الفلسطيني المقاوم - يتناقضان مع استراتيجيات القوى الدولية الصاعدة، وكونهما يتناقضان من جهة أخرى مع مصالح شعوب وبلدان المنطقة، ومعاديان لهما على طول الخط.
وفي هذا السياق، فإن المؤشرات العامة في العديد من بلدان المنطقة، والتغيرات العميقة التي تجري في القاع الاجتماعي، والتي لا يمتلك البعض حتى الآن البصيرة الكافية لرؤيتها، والبناء عليها، تشكل بدايات موجة جديدة من الحركة الشعبية، بخبرات جديدة، ووعي سياسي أرقى، تلجم من خلالها محاولات فرض الصراعات الطائفية، والقومية، والدينية، المصنّعة، والمفتعلة، واستدامة الاشتباك والإبقاء على حالة التوتر، وتدمير بنى الدول والمجتمعات، ومن شأن هذه الموجة أيضاً، أن تفعّل دور الحامل الاجتماعي المحلي، المتكامل مع دور القوى الدولية الصاعدة.
أمام شعوب المنطقة عموماً، وقواها الحية، فرصة تاريخية كي تعبر عن ذاتها في هذا المنعطف التاريخي، وتنطلق الى المرحلة التاريخية الجديدة، من خلال الربط بين مصالحها العميقة، الوطنية والاقتصادية- الاجتماعية والديمقراطية، ومنطق ومحتوى ميزان القوى الدولي الجديد، بشكل خلاق ومبدع، كل حسب ظرفه الملموس، ولكن وبكل الاحوال، بما يساهم بالخروج السريع من دوامة الدم، والصراعات المشوهة بمختلف تجلياتها وأشكالها ومستوياتها، والسعي إلى تعويض الخسائر الكارثية التي دفعتها دماً ودماراً. وفتح الطريق على عملية التنمية الوطنية الحقيقية، والانفكاك كلياً عن منظومة التبعية بحواملها المحلية، وأدواتها الدولية، التي تعتبر جذر كل الخراب الذي حل ببلدان الأطراف خلال العقود الماضية.
إن السير بهذا الاتجاه يعتبر شرطاً لا غنى عنه، لأية قوة كانت وبغض النظر عن تموضعها الحالي، حتى تؤمن لنفسها مكاناً في الفضاء السياسي الجديد، وتستمر في الوجود.