الأمريكان يحيكون على «القطبة المخفيّة» السوريّة
ليلى نصر ليلى نصر

الأمريكان يحيكون على «القطبة المخفيّة» السوريّة

لا يختلف اثنان من المتابعين الموضوعيين للسياسة، بأن «أمريكان» اليوم ليسوا «أمريكان» الأمس... فهم اليوم أقل حيلاً: ولم يعد أمرهم: «كُنْ».. فيكون! والسبب يكمن في أنهم أكثر تأزماً، وأقل قدرة على الفرض، وأصبح عنوان السياسة الأمريكية الأساس: تنظيم التراجع، ولكن «التراجع النشط».

 

وإن كانت تجليات التراجع العالمية واضحة وجلية، بالتغيرات الاقتصادية الدولية، وبتوازنات الردع العسكرية، وبمسار متغير لطبيعة العلاقات الدولية... إلا أن قدراتهم وأداءهم في منطقتنا، وتحديداً في أزمتها الحامية حالياً: أي الأزمة السورية، لا يزال أداءاً فعالاً نسبياً... فعّالاً في تأخير الحلول فقط، وتحريك هوامش الصراع.
يتجلى التراجع النشط الأمريكي في منطقتنا وفي سورية بوضوح، فالولايات المتحدة لم تسلّم لمعارك القضاء على الإرهاب بسهولة، بل فُرض عليها القضاء على داعش، ويُفرض عليها اليوم التخلي عن النصرة، ومن يلعب دوراً يشابه دورها. ومع هذا فإن الولايات المتحدة التي تيقن أن الحلول السياسية قادمة، تحاول استخدام كل أوراق التصعيد والتسويف، علّ شيئاً يتغير... أو علّ الوضع يصل إلى عتبة تصبح فيها الحلول السياسية الشاملة مستحيلة، ويُفتح الباب، لحلول أمر واقع تسمح بالتقسيم، أو تجعل استعادة وحدة البلاد كاملة، عملية صعبة ومديدة، بالتالي تمنع الاستقرار وتترك بؤر الفوضى متجددة.
دور عسكري في الجنوب والشمال
ويعمل الأمريكان كل ما يمكن لتحقيق ذلك: فإذا ما ذكرنا آخر المحاولات عبر تواجدهم العسكري في الجنوب في منطقة التنف، ومحاولة إيصال قوات إلى معركة غوطة دمشق، لاستدامتها واستعارها، العملية التي أعلن عنها بعد فشلها... إلى الوجود العسكري في المنطقة الشمالية الشرقية، واستغلال القضية الكردية، واللعب على فالق التوتر القومي: التركي- الكردي، بالدرجة الأولى حيث يمتلكون قدرة على التحريض والدفع نحو خيارات التوتير لدى الطرفين... ويتجلى هذا اليوم بحدّة في معارك عفرين، حيث استجر الأمريكيون الاعتداء التركي، عبر حديثهم عن «حرس الحدود» من قوات كردية، ودورهم المخفي في عرقلة المبادرات الروسية لدخول الجيش السوري قبل الهجوم، وإخراج قوات وحدات الحماية من عفرين، الامر الذي كان من الممكن أن يسحب فتيل المعركة، لو تمت الاستجابة له في الوقت المناسب.
دور متراجع
في المؤسسات الدولية
وهذا على صعيد، أنواع التوتير عبر العمل العسكري... أما على الصعيد السياسي، فيلعبون الدور الأهم في عرقلة وتبطيء الحلول السياسية الدولية، كما في جنيف ومسار تطبيق القرار 2254. أما كيف يقومون بهذا فالأدوات كثيرة، حيث هناك وزنهم وتأثيرهم الهام وإن كان متراجعاً، على المؤسسات الدولية، من الأمم المتحدة إلى مجلس الأمن. ولكن مجال المناورة في هذا الجانب أصبح ضيقاً، حيث فُرض عليهم في مجلس الأمن القرار 2254 كخارطة طريق للحل السياسي الشامل في سورية، وفُرض عليهم أيضاً في مجلس الأمن أخيراً التعديلات على القرار 2401، والذي كان يهدف بالعمق لنسف مناطق خفض التصعيد، وفرض الروس أن يدعم مناطق خفض التصعيد، ومحاربة الإرهاب، ويكون متوازناً بما يعبر عن الأداء التصعيدي للأطراف السورية. وربما كانت مشاركة الأمم المتحدة بمؤتمر سوتشي، ورعاية نتائجه، واحدة من أهم مؤشرات تراجع قدرة الأمريكان على استخدام المؤسسات السياسية الدولية لعرقلة الحلول.
«التشدد السوري»
ولكن السلاح السياسي الفعّال الذي يسهل تحقيق رغبة الأمريكيين في عرقلة الوصول إلى الحل السياسي السوري الشامل، هو الاستفادة من مصالح الأطراف السورية المتشددة، ووعيهم لمخاوفها، من الوصول إلى التسويات والحلول... واستغلال عدم رغبتها بتقديم أي تنازلات لصالح حل الأزمة الوطنية. وهذه «القطبة المخفية» التي يحيك عليها الأمريكيون عرقلتهم للحل، تتجلى بالاعتماد على المواقف المتشددة ، في المعارضة والنظام، وفي الفصائل العسكرية، ولدى ممثلي الأكراد...
النخب السورية من أصحاب المكاسب الكبرى المتشكلة قبل الحرب، وخلالها، يتبارون في التشدد، وربما الأدق: يتخادمون عبر التشدد.
فعندما يعيد ويكرر متشددو المعارضة في جولات جنيف، شروطاً مسبقة للتفاوض، غير واقعية، ولا تخدم مصلحة الشعب السوري للحل، يتجاوب متشددو النظام بالامتناع عن التفاوض المباشر، أو المماطلة في بحث مسائل الحل. وعندما يمتنع متشددو المعارضة عن الحضور إلى مؤتمر سوتشي، يمتنع النظام عن إرسال ممثليه الحكوميين.
وعندما تمتنع الفصائل العسكرية المعارضة عن استكمال اتفاقيات مناطق خفض التصعيد، وتحاول أن لا تهاجم النصرة، أو تمتنع عن الانفصال التام عنها. وعندما ترتكي بعض القوى السياسية العسكرية الكردية على الدعم الأمريكي، وتتجاوب بالتالي مع التحريض الأمريكي الهادف إلى استخدام الورقة الكردية في إيقاد معركة... وغيرها من السلوك والأداء السياسي لأغلب القوى السياسية السورية في كل الأطراف، التي تساهم باستدامة أزمة السوريين، عبر أخطائها السياسية، وتعنتها، وارتهانها للمصالح الضيقة، التي تودي إلى «المصالح الخارجية».
والأمثلة كثيرة كلما دخلنا في التفاصيل عبر مسار الأزمة، ولكن كلها تبين أن السلوك المتشدد يخدم الغرض ذاته: تأخير الحل. وتبين أن هذا السلوك مدفوع بالتعنت وعدم رغبة هؤلاء تقديم التنازلات للشعب السوري، وللبلاد. وكلها في نهاية المطاف: تصب في خدمة الاستراتيجية الامريكية لإدامة الاشتباك، وعرقلة الحلول الشاملة.
التراجع الأمريكي أمر حتمي، عالمياً، فها هي الولايات المتحدة تذهب للتفاوض مع كوريا الشمالية، بعد أن دقّ ترامب طبول الحرب... وكما في كوريا أو غيرها من رقع العالم المتوترة، فإن الأمريكيون سيجدون أنفسهم في نهاية المطاف، خارج الأزمة السورية، وتحديداً إذا ما استمروا باستراتيجية إيقاد المعارك، لأن كل المعارك خاسرة سياسياً بفعل تغير ميزان القوى الدولي، وكل خسارة معركة، هي خسارة مضاعفة بالأدوات السياسية... أمّا اتكّاء الولايات المتحدة على القطبة المخفية: أي تناغم أداء المتشددين في أطراف الصراع السوري ممن يؤخرون الحل، وهو ما يساعد الاستراتيجية الأمريكية، فهو عملية ليست قابلة للاستمرار طويلاً... لأن المعارك التي يوقدها الأمريكيون بالاتكاء على مواقف قوى التشدد، وكل معركة تُطوى، تطوي معها قدرة هؤلاء على العرقلة، وتضعف ممانعتهم وتقرّب الحل. ليبقى خيار واحد لحل أزمة سورية، خيار الحل السياسي الشامل، المدعوم دولياً وتحديداً عبر القرار 2254، وهو خيار الضرورة الذي تفرضه تغيرات موازين القوى العالمية، وتدفع باتجاهه كل القوى الوطنية السورية.