جهاد أسعد محمد جهاد أسعد محمد

الليبرالية الجديدة.. والتفتيت (الإنساني) الشامل

على هامش مناقشات مسودة مشروع قانون الأحوال الشخصية..

اشتهرت الليبرالية الجديدة في شتى أنحاء العالم بأنها اجتهاد فكري اقتصادي جديد، تتبناه الدول الرأسمالية الكبرى والمنظمات الدولية الخاضعة لأمرها، وتحاول فرضه أو تسويقه عالمياً، بحيث يصبح منهجاً عاماً لجميع الاقتصادات، والاقتصاد العالمي، ويرتكز هذا (الاجتهاد) إلى النظريات والتنظيرات الحديثة للإيديولوجيين الرأسماليين، ولا يخرج عن الأسس والقوانين الكلاسيكية للرأسمالية ومداراتها..
وشاع عن هذه الليبرالية المستحدثة، على سبيل السذاجة أو عدم العلم بالشيء، بحكم أن مبادئها وأفكارها غير مجموعة في كتاب واحد يحمل اسمها ويوضح ماهيتها، أن موضوعها ينحصر في الاقتصاد وتشعباته فقط، خصوصاً وأن أشهر ما تم إعلانه من رؤاها وتصوراتها غير المعلنة كلياً، يرتبط بالقضايا والشؤون ذات الطابع الاقتصادي بالدرجة الأولى، ولا يتعداها إلى شؤون أخرى.. وساعد على ذلك، الانتشار الواسع لمصطلحات قديمة أو مبتكرة من مثال: الخصخصة، تحرير التجارة، تحرير الأسواق، إلغاء دور الدولة أو تحجيمه، رفع الدعم، تعويم العملة الوطنية، إلغاء الرسوم الجمركية، التخلي عن التخطيط المركزي...إلخ..
وما لا يعرفه سوى قلة قليلة من الناس، وتحديداً في الدول المنهوبة، أن ظهور هذه الليبرالية الجديدة ذات الأثواب البراقة، واللغة المتحضرة، والمزاج الديمقراطي العالي المتغني بالحرية الشخصية ومناوأة الديكتاتوريات، ارتبط بالحملات العسكرية العنيفة لإعادة استعباد الشعوب وتفتيت الدول، والتي سبقها في جميع الحالات والنماذج المعروفة حتى الآن، قصف تمهيدي إعلامي واسع النطاق في الدول المستهدفة، انحصرت معظم عناوينه في شعارات (إنسانية) مثل: حقوق الإنسان، وتبني مطالب الأقليات الدينية والقومية (في الكيانات الوطنية الموحدة)، ومحاربة التمييز على أساس الدين أو الانتماء القومي، ومكافحة الإرهاب... إلخ.. كما كان لشعارات الليبرالية الجديدة حضور كبير في جميع الخطابات والبيانات التي تلت (الثورات) الملونة التي راحت تُفتعل بدعم إمبريالي معلن في أكثر من بقعة من العالم.. وكأنها الراعي الأول لها، وبالوقت نفسه الشرط الأساسي لإحداثها..

وبالتأكيد، ما كان لهذه الأفكار، ولا لهذه الحملات السياسية والفكرية والعسكرية أن تنجح، لولا الاختراقات الحقيقية التي سبق إحداثها في الدول والمجتمعات المستهدفة في الاقتصاد وجهاز الدولة عبر شخصيات وقوى، ترتبط مصالحها بالخارج، وتصب هذه الشعارات في خدمة أطماعها السياسية ومصالحها الاقتصادية.
وإذا ما جمعنا هذه المترافقات التي تشكل مجموعة غير متجانسة من المفاهيم المتناقضة، يتبين لنا أن الليبرالية الجديدة، بغض النظر عن مظهرها الجذاب وشعاراتها (الإنسانية)، هي إطار فكري- اقتصادي – سياسي - قيمي، متناقض شكلاً، منسجم مضموناً، غايته تفتيت الأمم والشعوب وتمزيق وحدتها على أساس ديني وطائفي وقومي، ليسهل استعبادها ونهب ما تبقى من ثرواتها في إطار الصراع الإمبريالي – الإمبريالي على الثروات والمواقع الاستراتيجية، خصوصاً مع اشتداد الأزمة العظمى التي تعيشها الرأسمالية..
وبعد هذه المقدمة الطويلة، وبنظرة عميقة لما تعيشه سورية في الآونة الأخيرة، يتبين لنا أن الليبرالية الجديدة التي قامت بفتوحات كبيرة في بلدنا على مستوى الاقتصاد، خصخصةً للعام، وتحريراً للتجارة والأسواق، وإلغاءً للدعم، وضرباً للزراعة والصناعة والإنتاج، قد بدأت بإطلاق حملتها نحو موقع آخر، وهو محاولة تفتيت الوحدة الوطنية السورية عبر دس أصابعها وسمهّا في مشروع قانون الأحوال الشخصية الجديد، ومؤشرات ذلك تتوضح باعتماد التسميات واللغة الطائفية بصورة مريبة، وباستحضار مصطلحات بائدة لم يعد يوجد مثيلها سوى في القواميس وكتب التاريخ القروسطية، ومحاولتها التمييز بين من لم تتنازل وتسميهم: مواطنين، والاستخفاف بحقوق بعضهم لحساب لبعضهم الآخر، واستعمال كلمات مهينة للمرأة..
ومع ظهور ردود الفعل الأولية الحانقة والمستاءة تجاه مشروع القانون تبدو اللوحة أشد قتامة، وتظهر نجاح الضربة الأولى لليبرالية الجديدة في هذا الموقع الجديد لنشاطها الممنهج، إذ بإمكاننا القول ونحن نتتبع التداعيات الأولى لإعلان مسودة القانون، إن الأخطر لم يعد المشروع نفسه، بل أسلوب مناقشته الذي استحضر واستنفر بقوة كل ما يلزمه من لغة طائفية ومذهبية.. وهو ما سعى إليه صانعو المشروع (المخفيون) تماماً!!
إن وعي هذا الأمر، ومن ثم مواجهته على الصعد كافة بلغة وطنية وخطاب وطني وأسلوب وأدوات تقدمية ثورية، هو ما يلزمنا لحماية الوحدة الوطنية والاستقرار الوطني من الفخ المنصوب لنا..

معلومات إضافية

العدد رقم:
410