إطلاق الحوارالعام من أجل وحدة الشيوعيين السوريين مبدأ(المركزية الديموقراطية) وإشكالياته في التطبيق

بدايةً، علينا توضيح المفاهيم الجوهرية المختبئة وراء كلِّ من هذين المصطلحين المركزية والديموقراطية، وذلك لنكشف خطأ الأفكار المتداولة عن كل منهما أو عن التلاعب بألفاظهما حين الممارسة. 

المركزية والديموقراطية: هما شكلان من أشكال الحكم والتنظيم الحزبي والمجتمعي، وهما نتاج العقل البشري، وثمرة تجربة إنسانية مارس الإنسان شكليهما في التنظيم عبر تاريخهِ الطويل. وتتباين الديموقراطية عن شكل الحكم الفردي بعدم وجودها بشكل إطلاقي، وبعدم سكونها وثباتها، إذْ هي في حالة حركة تطورية متصاعدة تواكب الأوضاع الاقتصادية الاجتماعية تاريخياً ومستوى الوَعي السياسي والثقافي للإنسان والمجتمع وكذلك مدى إرادته في التطوير والتحديث. 

لقد صاغ ماركس وانجلز من هذيْن الشكليْن من التنظيم (المركزية) و( الديموقراطية) مبدأً واحداً مزدوج الحدّيْن المتناقضين، بات في النهاية، تعبيراً عن جمع مصالح متنازعة موضوعياً، بين نزوع القيادات ( القلة) للهيمنة وفرض إرادتها وسيطرتها على القواعد، وبين نزوع القواعد ( الأكثرية) للديموقراطية لأنها تساعدهم على المبادرة والفعل والإبداع وترفع عنهم كابوس تلك السيطرة. وعند تفسير هذا المبدأ تتعدد الآراء بتعدد المصالح والأهداف. فمنهم من يعتبره محصلة صراع جدلي بين حدَّيه المركزية والديمقراطية، ومنهم من يراه مبدأ واحداً وتصبح الديموقراطية فيه تابعة للمركزية، ويراه آخرون أنه يحتوي على طرفيْن مترابطيْن متكاملينْ يَقوى كلاهما بالآخر، وبهذا تكتسب المركزيةُ الشرعيةَ والقوة، وعليه تسعى تالياً، لِتَحمي الديموقراطية وتعمل على تكريسها وممارستها بشكل مفيد.     

والآن، ولَدى تتبُّع تطبيقات هذا المبدأ (المركزية الديموقراطية) في حياة ونشاط الحزب الشيوعي السوري، فخيبة الأمل كبيرة، فطالما فَسَّرتهُ القيادة واستَخدمَتهُ على نحوٍ غير سليم، حيث نظرت إليه نظرةً عوراء فاستطالت من خلالها، تغليب المركزية على الديمقراطية إلى حدٍّ أَمسَت فيهِ الأخيرة شكلية، ظاهرية دون محتوى، لا بل، أمست فيه كالوَصيفةٍ التي تحوم حول الأميرة ساعية على الدوام لِتزيينها وتجميلها !. 

وللإجابة على دور مبدأ المركزية الديمقراطية في أزمة الحزب نقول: إن المشكلة لدينا نحن الشيوعيين السوريين، لا تكمن بذات المبدأ بقدر ما تكمن بالحامل المادي له، أي تكمن في القائمين على تطبيقه وخصائصهم الأخلاقية، حيث إن عقدة (حب السلطة) التي تتَّسم بها شخصية الإنسان العربي، بمعنى تغليبهِ الخاص على العام، وكذلك تكوينه النفسي الذي ينزع للأنانية وللسيطرة الفردية وتضخيم الذات، إن كل ذلك عملَ ويعمل على تغليب طرف (المركزية) على حساب (الديمقراطية) وبالتالي، ليخدم مصالح من هم (فوق) في السيطرة على من هم (تحت).

وعليه، فإن هذه الخصائص الشخصية لِمعظم القادة في حزبنا كان لها الأثر الكبير في بروز ممارسات وظواهر سلبية نذكر منها: 

■ عدم تطبيق الأنظمة الداخلية على الجميع في كل حالات الاختلاف والخلاف. 

■ التهرُّب من عقد المؤتمرات سنين طويلة أو في أوقاتها المحددة. 

■ شمولية صلاحيات الأمين العام، حيث اعتبر الأمين العام المرجعية الأوحد في الفكر والسياسة والتنظيم والقيادة مدى الحياة. والأنكى، حين ادعائه بـ (المعصومية) عن الخطأ !! . وطبعاً، إن مثل هذه الأمور مرفوضة في الفكر والنهج الماركسييْن أو كذلك لدى أصحاب المنطق والعقل السليميْن، ولنا في مقولة الإمام الشافعي عبرة، حيث قال بما معناه: « كل ما نقول بهِ صواب ولكنه يحتمل الخطأ وكل ما يقوله الآخرون خطأ ولكنه يحتمل الصواب ». ومن هنا يُحبَّذ إلغاء منصب الأمين العام واستبداله بهيئة قادرة على تحقيق القيادة الجماعية في الحزب.   

■ ظاهرة إلغاء المؤتمرات الشرعية عندما تأتي نتائجها غير ملبيةٍ لمصلحة القيادة. 

من هنا، فلا غروَ في أن تسود على عمل الحزب آلية أسلوبٍ بيروقراطي قاتل للإبداع ولا تساعد على التغيير المرتجى، آليةٌ فرضت أسلوباً ديكتاتورياً، قمعياً يتنافى مع مفهوم مبدأ المركزية الديموقراطية بشكل سليم. وبطبيعة الأحوال، فإنه في ظل هذا المناخ الاستبدادي والموبوء، يتعذر تطبيق مبدأ المركزية الديموقراطية بشكل مفيد وبالتالي إلى بروز الظواهر السلبية التالية:

■ غياب النقد والحوار الحُرَّيْن والعلنييْن: من المسلَّم به، إن النقد والحوار هما في الجوهر، تراثٌ جدليٌّ ناتج عن قانون التناقض، وهما الـ(دينامو)، المحرك في تقدم الفكر والحركة، وفي غيابهما يتكلَّس الفكر وتتجمد الحياة (وكم سمعنا مثل هذه التعابير الزائفة من القيادة في اجتماعاتنا السكوتية). والمؤسف، أن يصبح النقد حين حدوثهِ، في نظر من هم (فوق) جَرحاً لكبريائهم المتورمة، وحينئذٍ، ما كانوا ليتوانوا عن رَمي كل من يتجرَّأ من الرفاق على الانتقاد أو على مجرد إبداء رأيه المخالف للقيادة، بالاتهامات الجاهزة والجوَّالة بدءاً من تهمة التكتل ووصولاً إلى تهمة الخيانة...!!. 

■ تعذَّر إجراء عملية المحاسبة من الأدنى إلى الأعلى، لا غرابة في هذا طالما كانت تجري في  مؤتمرات مُسبقة الصُنع، صُورية، تحصل حصرأً (كل سنتين أو أربع سنوات)، في حين أن لدى الهيئات العليا الصلاحية التامَّة بأن تحاسب الرفيق في كل وَقت وفي ظل شروطها المسبقة. 

■ تعذُّر إجراء عملية انتخاب الهيئات القيادية بشكلٍ حرٍّ وبأسلوب ديمقراطي، وبخاصة، عندما كانت تجري باقتراح المرشحين من (فوق) وتحت إشراف القيادة المُوجَّه. 

■ طغيان الوَلاءات الشخصية على معايير الكفاءات: إن اندفاع القيادة للبحث عن الموالين والتابعين مما جعلها عمياء لا ترى أخطاءهم، وقد عبَّر أمامي أحد أعضائها يوماً عن مثل هذا التابع (المخلص) بقوله: إنه انتهازي وسيِّئ... ولكنه معنا!. وهكذا فإن مفهوم الالتزام الحزبي بات يتعلق قسرياً، بالأشخاص وليس طوعياً، بأفكار ومبادئ الحزب. ومن هنا، جرى تهزيل الكبار وتكبير الصغار حين انتقاء الكادر الحزبي. ومن هنا نلاحظ ابتعاد الرفاق المثقفين والمناضلين عن الحزب واصطفاء المريدين والمستفيدين في غالبية قياداته. وأيضاً من هنا ندرك معنى بروز ظاهرة (الحَبْرَمة) حول الأمين العام والمتنفذين في القيادة. 

وعلى جملة ما تقدَّم، ندرك الدور السلبي الذي لعبتهُ الخصائص الأخلاقية للقائد (النموذج) وكذلك مدى استغلاله لمبدأ المركزية الديمقراطية لصالحه، فلا عجب إذن، في أن يصبح هذا المبدأ عاجزاً عن تأمين حالة التعايش المطلوبة بين الأقلية والأغلبية، وكذلك عن جمع مصالح من هم (تحت) مع مصالح من هم (فوق)، وبالتالي، عاجزاً عن تأمين وحدة الحزب الفكرية والتنظيمية المنشودتيْن في المبدأ ! وكذلك ليس عجباً أن تصبح وَحدة الحزب هشةً، شكليةً من غير مضمون تجسدت أخيراً بتَشقُّق الحزب إلى فصائل متناحرة. 

ما هو المطلوب الآن؟؟ إزاء ما آلت إليهِ أوضاع الحزب مؤخراً، من طمسٍ لِهويتهِ ووَجههِ المستقل، ومن تشرذم تنظيمي وضعفِ سياسي وضحالة فكرية، وكذلك من عزلة جماهيرية قاتلة، فليس أمامنا سوى العمل على:

ـ فهْم مبدأ المركزية الديموقراطية بروحٍ علميةٍ والعمل على تطبيقهِ بإرادةٍ صادقة، ولا يتحقق ذلك، بتقديري، إلاَّ بتفعيل طرف الديموقراطية فيه، وعلى نحوٍ يضمن حقوق القواعد في التعبير عن إرادتها وتهيئة الظروف في سعيها إلى الحرية، وبتمكين الرفيق والأقلية حق ممارسة أسلوب النقد والانتقاد دونما اتهامات وإقصاءات. علينا العمل على إيجاد الصيغ والأشكال التي توفر للقواعد إمكانية محاسبة القيادات وإمكانية القضاء على فرديَّتها وتملكها القيادة الأبدية للحزب وإمكانية عزلها حين اللزوم. ـ تجاوز الذات الفردية والنضال معاً، في سبيل بدء حوار رفاقي يفضي إلى تحقيق وحدة حزب حقيقية قائمة على مفاهيم واحدة وعلى أسس ديمقراطية. ـ علينا كسر الآلية القديمة المتحجرة، ونفض الغبار عن مفاهيمنا وتهيئتها لتتنفس من أوكسجين العصر، ولا يتحقق ذلك إلا بتحجيم صلاحيات الأمين العام والمكتب السياسي الشمولية وإنشاء مكاتب متخصصة وذات فعالية، وبخاصة لجنة رقابة حقيقية مستقلة عن نفوذ الأمين العام، تقوم بالإشراف الفعلي والمستمر على تطبيق الأنظمة وعلى أعمال جميع المكاتب بما فيها أعمال المكتب المالي (مصدر نفوذ الأمين العام غالباً). 

 

■ جيرود : محمود ،م، سَـمُّور