الافتتاحية نحو حكومة وحدة وطنية تحكم ولا تُحكَم!
أثبتت الشهور الستة المنصرمة، وهي عمر تفجر الأزمة الوطنية العميقة التي ما انفكت تعصف بالبلاد، أن حالة المناطحة والتناحر الجارية بين النظام من جهة، والحركة الشعبية من جهة أخرى، في محاولة كل منهما نسف الآخر وإلغاءه،
لم تؤدّ عملياً إلا إلى حدوث استعصاء مزمن ودموي، أثّر وما يزال يؤثر تأثيراً سلبياً كبيراً على وحدة المجتمع السوري، وعلى مختلف الفعاليات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية فيه، وبدأ ينذر باحتمالات جدية واسعة لتدخل خارجي وشيك لن يقدم لسورية وشعبها إلا التفتيت والانقسام والاقتتال الأهلي والتبعية المذلة.
لقد خلقت المنطلقات الخاطئة في التقييم، والأساليب المرتكزة إليها في المعالجة، التي اعتُمدت في التعاطي مع الحركة الاحتجاجية الشعبية بهدف إخمادها أو القضاء عليها، مناخات مؤاتية للغلاة في النظام، المرتبطين بقوى الفساد الكبرى والمؤتمرين بأمرها، لكي يُظهروا أسوأ ما عندهم من ضروب القمع والتنكيل ضد المحتجين تحت يافطة إحلال الأمن والتصدي لـ«المؤامرة الخارجية»، كما فتحت في الوقت نفسه، المجال أمام جميع القوى المتزمتة والمشبوهة والعميلة، والتي هي بالعمق الوجه الأخر للعملة ذاتها، لمحاولة امتطاء الحركة الشعبية، ومن ثم العمل على دفعها في مسارات خطرة، وتحميلها شعارات لا تخدم غاياتها الحقيقية، وأخيراً وليس آخراً الإيعاز لبعض المحسوبين عليها لحمل السلاح، وهو ما تحول إلى ظاهرة فاقعة في الآونة الأخيرة، وإطلاق دعوات ناشزة لا علاقة لها من قريب أو من بعيد بالثقافة الوطنية السورية والإرث الثوري التحرري للسوريين جميعاً..
وقد ترافق كل ذلك بلغط إعلامي، داخلي وخارجي، اعتمد اللغة الفئوية والتخوينية ومنطق التهويل والتهويش، فساهم في توسيع الهوة والفرز الوهمي وانقسام المجتمع بشكل غير مسبوق بين «مؤيدين»» و«معارضين»، أخطر ما فيه أن قسماً منه يجري على أرضية الشحن الطائفي.. وقد أدى ذلك - بكل أسف- إلى نزيف سيل من الدماء دون أي مبرر، وتزعزع الثقة الحاد بين طيف واسع من الشعب السوري والنظام السياسي القائم، وإلى تفاقم الأزمة بصورة أوسع وأعمق، ما نتج عنه تدويل هذه الأزمة بصورة متزايدة بحجة حماية المدنيين، وهو ما بدأ بتصريحات «كلاسيكية» متوسطة الشدة لبعض المسؤولين الأتراك والأمريكيين والأوربيين، ليتبعه سريعاً تدخل دبلوماسي متفاوت الحدة من بعض الأطراف الإقليمية والدولية على شكل نصائح وقحة ونشاط مشبوه لبعض سفراء الدول الرأسمالية الاستعمارية، واتصالات فجة مع بعض الأطراف المناوئة للنظام، واستضافة مؤتمرات ولقاءات لما يُعرف باسم «قوى المعارضة».. قبل أن يصل هذا التدخل مؤخراً إلى حملة إعلامية سياسية مسعورة، عربية وإقليمية ودولية، نحت باتجاه البدء بعملية سحب السفراء وراحت تفرض العقوبات بحق كبار المسؤولين السوريين والشركات والمؤسسات، العامة والخاصة، وتلوّح بالتدخل العسكري..
ولعل اللقاء التشاوري الذي انعقد بين 10- 12 تموز الماضي، كان الخطوة الجدية الوحيدة في هذه اللجة، كون الإحداثيات معقدة جداً بمعظمها بينما الحلول المعتمدة بسيطة وغير عميقة، وهذا ما يفرض الآن الارتكاز إلى الذهنية التي أنتجت هذا اللقاء بالسرعة القصوى، والأُخذ بما انبثق عنه من توصيات وتنفيذها فوراً لأنها الضمان الوحيد لخلق المناخ المؤاتي للحوار الوطني الشامل، تجنباً لتفاقم الأمور بصورة أكبر ووصولها إلى مستوى أعلى من التعقيد بحيث لا يبقى من مخرج آمن يجنّب البلاد وشعبها ما لا تحمد عقباه، في ظل توالي التهديدات وتزايد احتمالات العدوان الخارجي، وفي ظل استمرار انسداد معظم القنوات بين الشعب والنظام.
إن تدارك هذا الوضع الخطير بات يتطلب اليوم، وعياً وطنياً وسياسياً كبيراً يدرك حجم الأزمة الوطنية القائمة وطبيعتها ونوع الحلول المفترضة لها، مثلما يدرك حجم المضاربات والتسويات السياسية الدولية الجارية، والتي قد تكون على وشك الحدوث، كما يحتاج إلى جهود حثيثة وجدية، موحدة وشاملة وخالصة الانتماء الوطني، في سبيل الإحاطة بحجم المخاطر التي تتهدد استقلال البلاد ووحدة أرضها وشعبها، وهذا بدوره يتطلب انعطافاً حاداً وفورياً نحو حلول سياسية تشاركية حقيقية، تنطلق في حوار وطني عميق وشفاف، وصولاً إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية ذات صلاحيات واسعة تضم جميع القوى الوطنية، الموالية والمعارضة، التي تهمها مصلحة البلاد ووحدتها واستقلال أرضها وقرارها، حكومة تحكُم باسم الشعب ولا تُحكَم إلا به، وتأخذ على عاتقها إنجاز إصلاحات جذرية شاملة بهدف إخراج سورية من أزمتها، والمضي بها إلى الدولة القوية التنموية المقاومة القادرة على تحرير أراضيها المحتلة والحافظة لكرامة أبنائها، دولة التعددية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية.