نصر شمالي    نصر شمالي  

تواطؤ النخب ضدّ الشعب في سورية

تشير الإجراءات والتصريحات التي صدرت عن التحالف الأطلسي مؤخّراً، بعد مرور حوالي ستة أشهر على اندلاع الأحداث السورية المتصاعدة، إلى أنّ هذا التحالف ربّما حسم أمره تجاه الوضع السوري في مسألتين: الأولى مسألة السلطة الحاكمة التي ينبغي تغييرها حسب تأكيدات قادة التحالف، والثانية مسألة الشعب الثائر الذي ينبغي تغييره أيضاً، سواء بإخضاعه واحتوائه أم بتدميره وتخطّيه، وهو ما تدلّ عليه المناورات الغامضة لهؤلاء القادة، سواء في ما بينهم أم مع أطراف من المعارضة المغتربة والمقيمة

فمن البديهي أنّ لمثل هذا التطوّر في موقف التحالف (فيما لو صحّ) طرفه السوري الذي لا غنى عنه ولا يجوز إغفاله مهما تكتّموا عليه... وبالتالي فإنّ الخشية من تواطؤ نخبة سورية ضدّ شعبها تصبح مفهومة، ويصبح متوقعاً ألا تتورّع مثل هذه النخبة عن توظيف الحقّ لمصلحة الباطل، وألا تتردّد في تشكيل غطاء وطني لعدوان أطلسي محتمل.

إنّ الخشية من وجود طرف سوري متواطئ مع الأطلسي ليس ضرباً من التكهّن... فمن المعروف، والمعلن، أنّ هناك نخباً سورية طالما عبّرت عن صلتها الحميمة فكرياً وسياسياً بالدوائر الأوروبية والأميركية، وعن تطلعها إلى إقامة نظام ديمقراطي شجعتها تلك الدوائر على العمل من أجل إقامته.

وبالفعل رأيناها وقد دأبت منذ أكثر من خمسة عشر عاماً على التفاعل العلني الإيجابي مع الأوروبيين والأميركيين في هذا الاتجاه، وعلى الترويج لأطروحاتهم حول العولمة واقتصاد السوق والليبرالية والديمقراطية وحقوق الإنسان وحقّ تقرير المصير..الخ، متجاهلة دورهم الأساسي المستمرّ في عملية تمزيق العرب، واحتلال بعض أقطارهم، ونهب ثرواتهم، ورعاية الأنظمة الفاسدة التي تحكمهم.

 لقد نشرت الصحف منذ العام 1995 أخباراً كثيرة عن اللقاءات التي كانت تعقد في واشنطن وفي العواصم الأوروبية بين نخب عربية ونخب أوروبية وأميركية... وقد شارك في تلك اللقاءات سوريون معروفون بعضهم مقيم في سورية.

وأذكر من تلك الاجتماعات (حسب الصحف في حينه) أحدها الذي انعقد في الولايات المتحدة، في العام 1995، وحضره بول وولفويتز الذي لم يكن مشهوراً آنذاك، والذي سيصبح لاحقاً أحد البارزين في عصابة المحافظين الجدد وفي إدارة الرئيس بوش... ففي ذلك اللقاء تحدّث أحد الحاضرين العرب فقال أنّه يسلّم للأميركيين بمصالحهم المشروعة في البلاد العربية، لكنّه يريد أن يعرف طبيعة العلاقة التي سوف تقوم بين الولايات المتحدة والبلاد العربية بعد تحوّلها إلى الديمقراطية!

 فشرح وولفويتز أنّ هناك ثلاثة محظورات ينبغي على العرب تجنّبها، وهي: تهديد المصالح النفطية الأميركية... وتهديد أمن «إسرائيل»... والسماح بوصول حركة إسلامية إلى سدّة الحكم!

ويفهم من كلام وولفويتز أنّ على الديمقراطيات العربية المنشودة أن تسلّم للأميركيين بحقهم في التعامل مع النفط العربي كأنّما هو نفط أميركي , وأنّ تحرص على أمن «إسرائيل» حرص الولايات المتحدة عليه , وأنّ تتصدّى لأيّة حركة إسلامية تحاول الوصول إلى الحكم، ولو عن طريق الديمقراطية، بالضبط كما ستفعل الحكومة الأميركية!

في السنوات التي تلت عام 1995، وحتى يومنا هذا، صرنا نلاحظ أنّ هناك نخباً عربية لم تعد تتعرضّ في خطاباتها أبداً لقضية النفط العربي المستباح، ولم تعد تتعرّض أبداً للقضية الفلسطينية وللإسرائيليين، وصارت تناصب الحركات الإسلامية العداء الشديد بسبب ومن دون سبب، فنتذكّر على الفور محظورات وولفويتز!

بل إنّ هذه النخب ذهبت أبعد من ذلك بكثير حين راحت، بمناسبة ومن دون مناسبة، تدين مناضلي الحركات العربية على مدى القرن الماضي (تنعتهم استخفافاً بالقومجيين واليسراويين والإسلامويين!) وتسفّه برامجهم التحرّرية من أولها إلى آخرها، معلنة حرباً شعواء ضدّ الأيديولوجيات وأنظمتها الشمولية..الخ، أي ضدّ كلّ ما دعا المحافظون الجدد إلى محاربته، لتشمل الحرب كلّ ما هو خارج النطاق الأطلسي!

لقد بلغ هوان وتهاون النخب المذكورة حدّاً جعلها تتجاهل البديهيات في العلاقات الدولية، التي تقطع بأنّ ما يحكم هذه العلاقات هو منطق الحرب لا منطق السلام، فهي تغزل في تفكيرها المجرّد وفي نشاطاتها الميدانية على منوال نخب المعاهد الفكرية الإستراتيجية في أوروبا وأميركا، متطلعة إلى علاقات نزيهة ودّية معها (كأنّما هي ندّ لها!) وساعية إلى إقامة نظام ديمقراطي في بلادها بمساعدة ورعاية الحكومات الأطلسية التي لم تعد ترى فيها حكومات استعمارية!

وبالفعل، استمعنا لاحقاً إلى شخصيات من هذه النخب وهي تعلن تأييدها لاحتلال العراق باعتباره عملية تحرير للشعب العراقي! بل إنّ بعضها ذهب إلى حدّ التصريح عن إعجابه بالواحة الديمقراطية الإسرائيلية!

غير أنّ الأمة العربية بمعظمها بقيت في منأى عن ضلال بعض نخبها، فهي تدرك بالفطرة، إضافة إلى التجارب الميدانية والعبر التاريخية المتوارثة، حقيقة هذا النظام الربوي العالمي الأطلسي/الصهيوني، وتعرف جيّداً مسؤوليته الرئيسية في ما آلت إليه أوضاعها من دمار شامل... والأهمّ أنّ المصائب العظمى لم توهن عزيمتها بالرغم من وقوعها لعقود طويلة في حمأة مثلث يشبه مثلث برمودا الافتراضي المهلك، حيث واجهت العدو الأطلسي/الصهيوني المحتلّ، المغتصب، الشره الطامع أبداً بالمزيد , وواجهت النظام الرسمي العربي المتخلّف والمفرّط والتابع، الذي يحكمها بقسوة وحشية , وواجهت أوساطاً من نخبها تتظاهر بالشفقة عليها لتبرير تعاونها مع أعدائها الأطلسيين، ولتبرير استقوائها بهم ضدّ الحكّام المستبدّين الذين يستأثرون (كنخبة أيضاً) بالسلطة ويقصون النخب الأخرى عنها.

وجدير بالذكر أنّ الصلة بين الشعب السوري ومعظم نخبه، الصالحة والطالحة، شبه مقطوعة منذ عشرات السنين، أمّا النخب السورية (والعربية عموماً) التي نتحدّث عنها هنا تحديداً فقد تشكّلت (مع غيرها من أمثالها في معظم أنحاء العالم) في أواسط التسعينيات الماضية، أي في فترة صعود المحافظين الجدد الصهاينة وبتشجيع منهم.

وقد كان المحافظون يضعون الخطط حينئذ (بعد زوال الاتحاد السوفييتي) لتفتيت دول العالم وتحويلها إلى آلاف من الدويلات الديمقراطية الدائرة في فلك واشنطن وحدها! تماماً كما كان الحال في أوروبا القرون الوسطى، حيث كانت المدن/الدول منتشرة كالفطر! وكان المقرّر للبلاد العربية أن تتفتت وتتحوّل إلى ما لا يقلّ عن مائة دويلة ديمقراطية! ولعلّ ذلك ما أثار حماسة بعض النخب المحرومة من الحكم في ظلّ الاستبداد، فهاهي الفرصة تبدو سانحة كي يحكم كلّ منها دويلة ديمقراطية مهما صغرت، حتى لو كانت مدينة/دولة!

ولنلاحظ هنا كيف أنّ البعض يتحدّث اليوم عن حقوق الأقليات في سورية بما يشبه المطالبة بحقّ تقرير المصير، أي بإقامة دويلة!

غير أنّ الحلم الأميركي/الصهيوني انهار بمعظمه في العراق، حيث وجدت الولايات المتحدة نفسها في حالة من التخبط والتقهقر، وقد تزعزعت مكانتها الدولية العسكرية والاقتصادية والسياسية... لكنها سرعان ما حظيت بنجدة حلفائها الأطلسيين وأتباعها النفطيين، فتماسكت بما يكفي كي لا تتخبط وتتقهقر أكثر، ولم تجد ضرورة للإعلان عن نهاية حلمها بتفتيت العالم إلى آلاف الدويلات، فاستمرّت أصداء الحلم المنهار تفعل فعلها المحدود هنا وهناك، كما في السودان مثلاً.

 

 أمّا عن النخب المذكورة فقد استمرّ وجودها رغم خيبتها وفقدانها للكثير من حيويتها وحماستها... وعندما انطلقت الانتفاضات الشعبية العربية، ابتداء بتونس، ظهرت المفاجأة/الصدمة واضحة في واشنطن وفي مجمل العواصم الأطلسية، وظهر الارتباك جلياً بصدد كيفية التعامل مع هذه الانتفاضات... أمّا تلك الأوساط من النخب إيّاها فقد توهّمت أنّ ما يحدث هو ما حلمت به وسعت إليه، وهو الوهم الذي سرعان ما تبدّد، في تونس وفي مصر على الأقلّ... لكنّها لم تيأس، وهاهي تنخرط في العمليات الأطلسية الهادفة إلى احتواء الانتفاضات الشعبية وإخضاعها، أو تدميرها وتخطّيها، زاعمة أنّ هذه الانتفاضات هي محصلة جهودها، وتحت إشرافها، وإن كانت لا تقودها ميدانياً! علماً أنّ الجماهير في أهدافها المرفوعة المعلنة تلحّ على الحرّية والكرامة والعدالة والاستقلال والتحرّر والتحرير، ولا تشير في لافتاتها أبداً إلى الديمقراطية، لأنّ الديمقراطية، حسب سلّم الأولويات، قضية تنظيمية لاحقة لا يمكن القفز إليها وتحقيقها (بصورة صحيحة لا صورية) قبل تحقيق الأهداف المذكورة التي تزخر بها كتابات الجماهير، وتصدح بها حناجرها.