ما بعد الهدنات!
تتنامى ظاهرة الهدن والمصالحات المحلية بشكل مضطرد، منذ الدخول الروسي المباشر، حيث امتدت إلى مئات القرى والبلدات، و وانخرطت فيها عشرات الجماعات المسلحة، في ظل الرعاية الروسية لها، لتصبح ظاهرة جديرة بالاهتمام، تشكل بمجموعها ثقلاً بشرياً ممتداً على مساحات جغرافية واسعة، بالإضافة إلى وزنها النوعي، كمثال حي وملموس على إمكانية لجم السلاح سياسياً.
تؤكد هذه الهدن، إن إيجاد طرف جاد في الحفاظ على الهدن، وحريص على استمرارها، يجعل توسعها ممكناً باستمرار، لاسيما بعد أن أدرك المسلحون السوريون بالتجربة الملموسة، عقم الخيار العسكري، والمأزق الذي وصل إليه، سواء كانت من جهة قوى الحسم، أو قوى الإسقاط.
إن الأهمية الأخرى لفتح المجال أمام هذه الظاهرة، هي أنها بداية لإمكانية توحيد بنادق السوريين ضد الإرهاب الوافد من الخارج، أو من في حكمهم من السوريين، الأمر الذي لا يمكن من دونه القضاء على الجماعات الإرهابية المسلحة، والتي بات وجودها يهدد وجود سورية كدولة موحدة، لاسيما وأن وقفة موضوعية مع تفشي ظاهرة العمل المسلح في الأزمة السورية، والمرفوضة على كل حال، وبعيداً عن تبرير استمرارها، تؤكد أنها في حالات غير قليلة كانت عبارة عن ردود أفعال على ممارسات أجهزة الدولة.
إن الانخراط في هذه الهدن، بالإضافة إلى المظاهرات السلمية التي واجه فيها السوريون الجماعات المسلحة، في الكثير من المناطق الخاضعة لسيطرتها، ولجمت العمل المسلح بصدورها العارية، قدسيا مثالاً، إنما تعبر عن رأي عام شعبي عريض، يعبر عن نفسه بأشكال مختلفة، ويتجاوز التقسيم الوهمي السائد، «معارضة – موالاة» وتعكس في العمق الوعي الوطني السوري، المغيب في ضجيج الحرب، والذي أرهقته الأزمة بتداعياتها المختلفة، والذي يأتي في رأس أولوياته اليوم إيقاف الكارثة الإنسانية، وطرد قوى الإرهاب الفاشي، وممارسة حقه المشروع في اختيار نظامه السياسي..
ومن الجدير بالذكر، أن هذه الظاهرة على أهميتها، لا يمكن أن تكون بديلاً عن الحل السياسي الشامل للأزمة السورية، ولكنها بكل تأكيد تستحق توظيفها وطنياً إلى أقصى حد، ورعايتها، والحفاظ عليها، وفتح الآفاق أمامها لتكون نموذجاً لمناطق وجماعات مسلحة سورية أخرى، ولعل أهم ما يجب العمل عليه هو تمثيل هذه الجماعات المسلحة، في أي مؤتمر دولي لبحث الحل السياسي للأزمة السورية، والكف عن التعاطي معها، على مبدأ «العودة إلى حضن الوطن» الذي قد يكون إجهاضاً لها، وسبباً لمنع تمدد هذه الظاهرة إلى مناطق وجماعات أخرى.