التجييش الفئوي.. وسلطة الفساد.. والأجندات الإمبريالية
يعكس النجاح المتفاوت الأمدية والنسب للقوى المعادية للشعب السوري ووحدته الوطنية في التجييش الفئوي على امتداد البلاد، والذي تجلى بصورة مقلقة في أوساط مختلف الطوائف والمذاهب والأديان والقوميات الموجودة في النسيج الديمغرافي السوري في هذه الظروف الصعبة التي تمر بها سورية، المستوى الكبير من الارتدادت الاجتماعية التي خلّفها غياب الحياة السياسية في البلاد ردحاً طويلاً من الزمن، وتقهقر مفهوم المواطنة وتضعضعه أمام المفاهيم السابقة لمفهوم الانتماء الوطني والدولة الوطنية، والذي كان في الفترة القصيرة نسبياً التي تلت الاستقلال، قد قطع شوطاً لا بأس به إلى الأمام.
ولاشك أن المناخ المؤاتي لهذه الارتدادات، لم يتشكل بين ليلة وضحاها، أو على حين غرّة بفعل مؤامرة خارجية أو لأسباب راهنة، وإنما راحت عناصره تتكاثر وتتضافر وتنمو باطراد، مع تتالي تلقّي المجتمع السوري العديد من الضربات الموجعة اقتصادياً وسياسياً ووطنياً بدءاً من ستينيات القرن الماضي، وتوّجت في العقد الأخير بالسياسات النيوليبرالية التي حدّت كثيراً من دور الدولة الرعائي، ومركزت الثروة والتنفّذ في أيدي قلة قليلة من الناهبين والمتغوّلين الكبار، ووسّعت دائرة الفقر والأوبئة الاجتماعية المختلفة، وأدت لتراجع حاد في الخدمات والإنفاق العام، ولم تقدّم أيّ شيء ذا أثر إيجابي يُذكر على مستوى الحريات العامة والقضية الوطنية.
وعوداً على بدء، يمكن التأكيد أن غياب الحياة السياسية بصورة شبه كلية طوال ما يقارب النصف قرن، سدّ كل المنافذ أمام المجتمع ليمارس علاقة مواطنة صحية مع مختلف السلطات والمؤسسات ذات الصلاحيات المحددة دستورياً، التي خضعت برمتها بالتدريج لسلطة واحدة في المحصّلة، وهي سلطة الفساد، التي راحت شيئاً فشيئاً تفرض إرادتها على النظام السياسي والمجتمع في آن واحد، وتحدد اتجاهات وطبيعة تطور كليهما، أو بالأحرى تخلفهما، وهذه السلطة غير الشرعية تكونت بدورها بالتدريج الذي أتاحه تغير الظروف الداخلية والخارجية، إلى أن أصبحت أخطبوطاً هائلاً واسع السطوة والتأثير، استمرأ السطو على المال العام، وعطّل التنمية المتوازنة، وكرّس التخلف، وأشاع مناخات اجتماعية ذات طابع طائفي فيها الكثير من اللغط والمراوغة، وميّع القضية الوطنية وعزلها عن حامليها الحقيقيين.. وبالطبع، فإن كل ذلك جرى في ظل غياب الرقابة المؤسساتية الفاعلة، والإعلام الوطني المستقل، والقضاء الحر النزيه والكفء، والأحزاب السياسية السيدة على قرارها وبرامجها، وكذلك ضعف وتدهور أحوال الجمعيات والمنظمات الشعبية وخاصة النقابات الأساسية (العمال والفلاحين) التي أصبحت بلا حول أو قوة.. في هذه الأجواء اضطرت أعداد وشرائح واسعة من المجتمع للعودة إلى مكوناتها البدائية ما قبل الوطنية من طائفة ومذهب وعشيرة وأقلية قومية أو دينية، في إطار بحثها عمن يحمي ظهرها ويوفر لها الحد الأدنى من الطمأنينة والتكافل الاجتماعي، الذي لم تستطع الدولة أن توفره بالصورة العادلة والكافية والمستمرة والمتطورة مع تطور وتغير متطلبات الحياة الموازي للتقدم العلمي والتقني، وراحت تراكم قهرها واحتقانها في صدورها بانتظار فرصة ملائمة لتعبر عن استيائها كيفما اتفق...
والخطير أن الفرصة المنتظرة للتعبير عن عمق الاستياء وحجمه، واكبها سريعاً مستوى عال من التجييش الفئوي والخطاب والسلوك الإلغائي والتخويني، مارسته وتمارسه بشدة متناهية قوى داخلية ترتبط عضوياً بقوى الفساد الكبرى داخل جهاز الدولة وخارجه، وقوى خارجية لها أجنداتها الخاصة، ليس في سورية وحسب بل في المنطقة والشرق والعالم بأسره، ما أدى إلى تحول خطر سيادة الأفكار الفئوية إلى اقتتال أهلي لا يبقي ولايذر..
والآن، فإن مواجهة هذا الخطر المرعب هي مهمة وطنية شديدة الحساسية والدقة، ولا يمكن إنجازها بالصورة المثلى وبأقل الخسائر، إلا بمناخ سياسي واجتماعي جديد يضمن تكاتف كل الشرفاء في جهاز الدولة وفي القوى السياسية الوطنية وفي المجتمع ممثلاً بالحركة الشعبية، وتوجيه النار المركزة أولاً إلى سلطة الفساد برؤوسها وأذرعها وأدواتها، وفي الوقت نفسه إلى كل من تسوّل له نفسه التدخل بأي شكل من الأشكال في الشؤون الوطنية السورية.. فحرب السوريين اليوم على جبهتين لا يمكن الانتصار في إحداها إلا بتوجيه الحراب الوطنية على الأخرى.. وإلا فالبلاد بأسرها، بشعبها ووحدة أبنائها وأرضها ستكون في مهب الريح..