الافتتاحية الكهرباء بين السياسة والاقتصاد

أكدت أزمة الكهرباء أن حكومة لاتتمتع بعقلية مواجهة بالمعنى العملي مع المخططات المعادية لسورية، لاتستطيع إلا أن تزيد الأمور تعقيداً في تحقيق متطلبات المواجهة.
وجاءت تصريحات رئيس الوزراء الأخيرة التي كشف فيها لأول مرة عما أسماه الأسباب الحقيقية والكامنة لانقطاعات التيار الكهربائي المتكررة في سورية، واصفاً إياها بالسياسية، لتنقل النقاش حول هذه الأزمة إلى مستوى آخر.

المسؤولون حتى هذا التصريح أبقوا الموضوع في الإطار الفني البحت، وجاء رئيس مجلس الوزراء ليثبت لنا «بالعربي الفصيح» أن هنالك علاقة مباشرة بين الكهرباء والسياسة، رغم أننا كنا نعرف مسبقاً أن هنالك علاقة بين الكهرباء والاقتصاد، وكذلك بين الاقتصاد والسياسة، وكنا نستنتج دون أرضية معلومات كافية أن هنالك حتماً علاقة مابين الكهرباء والسياسة.
ولكن السؤال الكبير الذي يطفو على السطح نتيجة لهذه التصريحات هو: لماذا سلمنا رقبتنا كهربائياً لشركات معروفة علاقاتها بالأوساط الحاكمة الغربية مثل: جنرال ألكتريك، وميستوبيشي، وألستون، وتحديداً سيمنس.
لماذا لم نحسبها بشكل صحيح منذ البداية؟؟ وإذا كنا نريد لسورية أن تكون عصية من الداخل على العدو من الخارج، هل نتساهل بهذه البساطة مع قضيته تمس بنهاية المطاف أمننا الوطني؟؟
نوافق رئيس مجلس الوزراء أن سبب المشكلة الحقيقي هو سياسي في نهاية المطاف، ولكن هذا السبب السياسي له وجه آخر لم يجر التطرق له حينما تم التركيز على السبب السياسي الخارجي، وهو: الداخلي.
هل تسللت هذه الشركات إلى كهر بائنا بشكل خفي؟؟ هل لم يكن أصحاب القرار يعلمون أن هذه الشركات يمكن أن تتحول إلى ورقة ضغط داخلية لإضعاف المناعة ودرجة الصمود؟؟
للإجابة على هذه الأسئلة لابد من العودة إلى الوراء قليلاً، والحديث ببعض التفاصيل.
إن القرار الفني «البريء» باعتماد العنفات الغازية في محطات الناصرية «150 ميغاوات»، زيزون «150 ميغاوات»، دير علي «750 ميغاوات» بحجة أن مردودها عال في ظل انخفاض إنتاج النفط اللاحق، قد وضعنا عملياً بين فكي الوحش، فهذه العنفات الغازية تحتكر إنتاجها أربع شركات احتكارية عالمية فقط، هي تحديداً جنرال ألكتريك، ألستون، ميتسوبيشي وسيمنس، التي لم يبق في ميداننا منها إلا الأخيرة، وهي سيمنس، والأرجح بسبب الاتفاقات السرية التي تجرى عادة بين هذه الشركات لتقاسم الأسواق، واستطاعت هذه الشركة أن تثبت مواقعها في سوقنا بعد أن صرفت حسب معلومات موثوقة مبلغ 80 مليون يورو كي لاتدرج في القائمة السوداء لمقاطعة إسرائيل.
والأنكى من ذلك أنه يتبين اليوم بعد التمحيص، أن الدراسات لم تثبت بعد أن إنتاجنا من الغاز سيكون كافياً لإدارة هذه المحطات!
إذاً هذا القرارالفني «البريء» باعتماد العنفات الغازية، أوصلنا إلى ماوصلنا إليه، وهذا القرار لم يكن خارجياً، بل كان داخلياً، وهكذا يتبين أن الخارج كي يمر، بحاجة لأحد من الداخل، ولايهم هنا إن كان هذا الداخل يرتكب هكذا غلط عن عمد أو غير عمد.
فإن ارتكبه عمداً، فهذا يعني أنه متواطئ سياسياً مع الخارج، وإن ارتكبه عن غير عمد، فهذا يعني أنه متواطئ مالياً ومصلحياً مع الخارج على أرضية الفساد، و«هبش» المال العام. والأمران أحلاهما مر، والنتيجة واحدة.
ولو كان المسؤولون في الحكومة يفكرون بعقلية المواجهة في صيانة القرار الوطني وحمايته ودرء الضغوط على البلاد لقاموا بالتالي:

- تنويع مصادر الوقود لتغذية المحطات الكهربائية.

- زيادة وتسريع الاعتماد على مصادر الطاقة المتجددة: «شمس – رياح»..

- تنويع المصادر الخارجية لتأمين التجهيزات الكهربائية وحواملها، وكسر دائرة الغرب عبر الخروج إلى الصين وروسيا والهند وإيران التي تتوفر فيها التكنولوجيا الضرورية، والاعتماد أكثر على تلك الدول القادرة أكثر على مواجهة الضغوطات الغربية.
إن الوضع السيّئ لإنتاجنا الكهربائي يريده البعض كما قلنا سابقاً: مدخلاً «لفوضى كهربائية خلاقة»، بالإضافة إلى إضعافها لمناعتنا تريد خلق الأرضية الموضوعية لفتح قطاع استراتيجي مثل الكهرباء للخصخصة.
إن المصلحة الوطنية العليا تتطلب انعطافاً جذرياً في عقلية التعامل مع القضايا الاقتصادية، فالتجربة العملية أثبتت أنها يمكن أن تكون الخاصرة الرخوة التي تُوجّه إلينا الضربات عبرها، وهذا الأمر لن يتحقق إلا بتنظيف الداخل، وهذا يتطلب حكومة مواجهة، أي حكومة بعقلية مواجهة، مما سيجعل الأمر أقل إيلاماً وأكثر فعالية في المواجهة السياسية، وفي ذلك ضمانة لكرامة الوطن والمواطن.