د. قدري جميل في مركز الدراسات الإسلامية: لم يستطع تماسيح المال بكل ثرواتهم السيطرة إلاّ على 5% من الناخبين
ألقى د. قدري جميل في مركز الدراسات الإسلامية بدمشق محاضرة بعنوان: «انتخابات مجلس الشعب بين الواقع والطموح»، وذلك مساء الاثنين 7/5/2007، تحدث فيها عن انتخابات مجلس الشعب الأخيرة، وما رافقها من حيثيات وظواهر مختلفة بحضور العشرات من المتابعين والمهتمين من أطياف متعددة..
سبق المحاضرة ترحيب بالمحاضر والحضور باسم مركز الدراسات الإسلامية صاحب الدعوة، وكلمة سريعة للأستاذ مظهر جركش (سننشرها في عدد لاحق)، تحدث فيها عن تجربته الأخيرة في الترشح لعضوية مجلس الشعب واستنتاجاته من هذه المشاركة، ليقدم د. قدري جميل بعدها محاضرته الشاملة التي قال فيها:
«سأحاول معالجة عدة أمور في هذه الجلسة، وسأبدأ بالسؤال الأول وهو: لماذا انتخابات مجلس الشعب هامة ويجب أن تكون كذلك؟
إن مجلس الشعب يمثل السلطة التشريعية، أي السلطة التي تسن القوانين وتراقب عمل السلطة التنفيذية، وإذا كان الشعب هو مصدر السلطات، فانتخاب مجلس الشعب هو شكل تجسيد ذلك. إذاً هو حدث سياسي هام، ومن هذه الزاوية يمكننا تحديد مدى أهمية أية انتخابات برلمانية، ومؤشر نجاحها أو عدم نجاحها هو مدى المشاركة الجماهيرية فيها.
الأرقام الحكومية
حسب تصريحات وزارة الداخلية السورية، فإن عدد الناخبين السوريين /12/ مليون ناخب، وتم توزيع بطاقات انتخابية على /7/ ملايين فقط، أي 60% من الناخبين السوريين المفترضين، وحسب التصريحات فإن 56% شاركوا بالانتخابات، وبعملية حسابية بسيطة فإن الذين شاركوا هم أربعة ملايين إنسان، وإذا رجعنا للرقم الأول أي /12/ مليون، فإن النتيجة ستكون أن الذين شاركوا هم 30% فقط، ولكن بالاعتماد على هذا الرقم الافتراضي يتوضح لدينا الرقم الرسمي، مع العلم أن هناك الكثير ممن قالوا: إن الرقم الحقيقي أقل بكثير، لأننا، وكلما ابتعدنا عن مركز العاصمة، وبصناديق عديدة، يتم إنزال بطاقات بالصناديق من دون ناخبين، وخاصة في اليوم الثاني من الانتخابات حيث تم غض الطرف عن بعض التجاوزات خاصة مع المشاركة الخفيفة، وهذا ما حصل مع البعض في دائرة حلب من دون استخدام أي وكيل لتأكده من نجاحه نتيجة هذه البطاقات التي خبئت في مكان آمن!!
تحليل الأرقام
الرقم الحقيقي للمشاركين الذي نعتقده يتراوح ما بين 15 ـ 30% حتى لا نظلم أحداً. ولكي نعالج هذه الأرقام بالاعتماد على قوائم الجبهة والمستقلين وما بينهما، وأخذنا دائرة دمشق نموذجاً، وطبقناه على جميع المحافظات أي أن قوائم الظل قدموا ثلث أصوات الناخبين الذين اقترعوا وإذا افترضنا أن هذا الثلث قد جيّر لتماسيح المال بأكمله يصبح نسبة تأثيرهم على الجسم الانتخابي السوري متراوحاً ما بين 5 ـ 10% من الناخبين، وهذا استنتاج هام جداً لأن بعض القوائم صرفت على الحملة الانتخابية /250/ مليون ل.س، أي أن الجبهة الوطنية التقدمية بأحزابها قد حركت ثلثي الناخبين وقوى المال الثلث، وهذا يعني أن 85% كحد أعلى، لم يشاركوا في العملية الانتخابية، وهذا يشبه كثيراً أرقام الانتخابات الفرنسية.. ولكن بالعكس!! وإذا أردنا خلال التحليل معرفة أهم المقاطعين للانتخابات يكون جمهور الجبهة الوطنية التقدمية ذاتها. لأن قوائم الجبهة التي تعتبر ناجحة سلفاً لا تحفز أحزابها ومكوناتها أن تدخل العملية الانتخابية بشكل تنافسي قوي للحصول على أصوات الناخبين، والقيام بما يكفي من الدعاية المقنعة من أجل جمع الأصوات. وقد أصبحت العادة لديهم المباركة والتهنئة بالنجاح قبل حصول الانتخابات.
بين العزوف والمقاطعة
إذاً المقاطع الأهم من بين القوى السياسية بالمعنى السياسي وتحريك الشارع، المقاطع بمعنى قيام فعل حقيقي على أرض الواقع، هي أحزاب الجبهة.
المقاطع الثاني حسب اللوحة السياسية السورية، هم الأحزاب التي تسمى بالمعارضة التي دعت إلى المقاطعة، ولكنني هنا أفرق بين مقاطعتها السياسية وبين الإحجام الشعبي العفوي عن الانتخابات، وهذان الأمران مختلفان، فلا يجوز أن يعزى الأول للثاني أو العكس، لأن المعارضة عزلت نفسها على الذين شاركوا وعمن لم يشاركوا.
أما القوة الثالثة المقاطعة للانتخابات فهي الوزن الشعبي العفوي «الناس العاديون» الذين لا دخل لهم بتلك الكتلة ما بين بـ15 ـ 30%.
خارج الـتأثير
إذا استطاعت القوى السياسية الوطنية الشريفة أن تصل إلى هذه الأكثرية الساكنة، وتحولها إلى قوى فاعلة، يتبين ويتوضح الوزن الحقيقي لتماسيح المال الذين حركوا 5% لصالحهم. أي أن اللوحة ستتغير جذرياً. وهنا يجب الاعتراف أولاً أن هناك هوة بين الحركة السياسية القائمة وبين الجمهور الواسع الموجود في الشارع ـ المشكلة أن هذه الحركة في بعض الأوقات تركن إلى الهدوء والاطمئنان عندما تقارن نفسها بعضها ببعض، فمثلاً حزب البعث وبمئات الآلاف من أعضائه يقارن نفسه بأحد الأحزاب الهامة في الجبهة، فالنتيجة أن ليس هناك وزن غيره، وبالتالي لا يوجد أي خوف. بينما في الواقع أن كل هذه الأحزاب السياسية عندما تتحرك ليس بإمكانها إلا تحريك 15% من مجموع الشعب السوري، و85% خارج الحركة، لذا يجب التفكير من الآن بعملية تحريك هؤلاء، حتى لا تستخدم من أحد خارج إطار المصلحة الوطنية ووحدتنا الوطنية والعداء للمخططات للامبريالية العالمية الأمريكية والصهيونية.
استنتاجات خاطئة
ومن المشاكل الكبرى والاستنتاجات الخاطئة التي أطلقها البعض هي أن بإمكان تماسيح المال التحريك، وطلبوا تركها لكي تعمل ما تريد لعلها تحرك ما عجز البعض عن تحريكه، وللعلم أيضاً فإن تماسيح المال قد استأجروا من سماء دمشق بالإعلانات ما يقارب 300 دونم، أي 300 ألف متر مربع بالمعنى العمودي وليس الأفقي، لذلك فإن أخطر ما فعلته هذه القوى وعلى الطريقة الأمريكية «انتخابات من دون برامج» أو انتخابات الابتسامات والأسماء، فحولوا الحملة الانتخابية إلى حملة لا معنى لها.. إلى تنافس بين صور وأسماء وابتسامات. والسؤال الذي يطرح «هل فعلاً ليس لديهم برامج».
الحقيقة أن لديهم برامج، ولكنها مخبأة تحت طاولاتهم، لأن إعلانها يجعل الناس يقفون ضدها، أي أنهم يقومون بعملية خداع كبرى للناس وتضليلهم بعد أن سرقوا لقمتهم.. إذاً لديهم برامج وبرامجهم ليست بعيدة من حيث الجوهر عن برامج المخطط الأمريكي الصهيوني العام، مخطط النيوليبرالية، مخطط تحطيم السيادة الوطنية ومقوماتها الداخلية الاقتصادية الاجتماعية.
وهم أيضاً يُعتبرون المنطقة الرخوة في المجتمع السوري التي يمكن للعدو الخارجي أن يحدث أكبر الاختراقات فيها، وهنا تكمن خطورة تماسيح المال، إضافة إلى إدخالهم تقاليد جديدة في المجتمع السوري، وهي تقاليد الرشوة العامة، فالمرشح يجب أن ينجح على أساس النزاهة والسلوك والعقل الذي يحمله، بينما شكل الدعاية الذي استخدموه شوه معنى الانتخابات.. هذا أولاً.
ثانياً شكل صرف الأموال أصبح متطوراً حاملاًَ معه دلالات خطيرة وعدة أنواع، فاعتماد الوكلاء مثلاً هو طريقة لشراء الأصوات وليس لحماية أصوات المرشح، فالقائمة الواحدة ضمن مركز واحد لديها أكثر من /30/ وكيلاً، وكل واحد منهم مطالب بجلب أصوات لا بأس بها من أقاربه وأصدقائه بحجة أنه يعمل للمرشح، أي تحت غطاء شرعية العمل، أي أن الوكلاء أصبحوا بدعة جديدة لشراء الأصوات، والتجربة أثبتت أن بإمكانهم أحياناً شراء صناديق خاصة مع انخفاض الإقبال، وبقاء الصندوق ليلة كاملة بعهدة لجنة يخلق ظرفاً موضوعياً لذلك، أي تغيير كامل للنتائج الحقيقية، أو إضافة أصوات.
أسباب العزوف عن المشاركة
الآن لنأتِ إلى الأسباب؟ إن السبب الأول هو عميق وبحاجة إلى مراجعة وهو الوضع الاقتصادي الاجتماعي في المجتمع، فمستوى الأسعار منذ أوائل 2006 حتى هذه اللحظة ارتفع 60% مع ثبات الأجور، أي انخفض مستوى المعيشة 60%، ومجلس الشعب المحترم الذي يجب أن يكون لسان حال الناس البسطاء لم يحرك ساكناً بهذا الاتجاه، فلم يحد من ارتفاع الأسعار ولم يعوض الأجر، فارتفاع أسعار العقارات على سبيل المثال بشكل جنوني أرهق المجتمع، ولم يعد يقتنع الناس بأي فائدة من هذا المجلس، فلماذا يصوتون إذاً؟. أي على المجلس أن يلعب دوره التشريعي بمواجهة السلطة التنفيذية في الدفاع عن مصالح الناس.
السبب الثاني هو النظام الانتخابي الحالي الذي يعتمد على الدائرة الواحدة كدمشق التي فيها 29 مرشحاً و1000 مركز للتصويت، فالذي يستطيع تغطية كل هذه المراكز، إما يملك أموالاً طائلة حتى يشتري الناس لمراقبة تلك الصناديق، أو حزب مدعوم من جهاز الدولة أو قوى المال. أي أن النظام الانتخابي مفصل حتى يتحكم فيه جهاز الدولة ويلعب دوراً لإبعاد 85% من الناس عن صناديق الانتخابات.
هذا القانون الانتخابي الفرنسي الذي اعتمدناه منذ الخمسينات، تغير مرتين عند الفرنسيين أنفسهم، لذا فالحل الأمثل هو تغيير هذا النظام الانتخابي الحالي الذي يعتبر أحد أشكال الإصلاح السياسي وتوسيع الديمقراطية في المجتمع، لأن هذا النظام الانتخابي أثبت عجزه وفشله، والانتخابات الأخيرة أكبر دليل على ذلك، كما وأصبح مضراً بالنظام السياسي القائم لأنه يمنعه من تحريك قواه، وهذه مهمة جميع القوى الخيرة في الوطن من أجل وضع ذاك النظام الذي يصبح أكثر انفتاحاً على المجتمع ولعل أفضل نظام في ظل مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي يعمل من أجل التفتيت على أساس طائفي وديني هو النظام الانتخابي النسبي، أي اعتبار سورية دائرة واحدة، من القامشلي أقصى الشمال إلى السويداء في الجنوب.
وهكذا يتم توحيد الشعب السوري باتجاه معاكس لمخطط شرق الأوسط الكبير، ويتم تنشيط الحركة السياسية على أساس البرامج الحقيقية وبالوقت نفسه يفسح المجال للشخصيات السياسية المعروفة للعب دورها، وللأحزاب كل حزب حسب وزنه.
والخلاصة:
أن النظام الانتخابي الحالي من أكثر الأنظمة الانتخابية رجعية في العالم، وهو يعيق تطور النظام السياسي ويضره ويكبحه، وأصبح القضاء عليه ضرورة من أجل الحفاظ على الوحدة الوطنية في البلاد.
أما السبب الثالث لعزوف الناس فهو شكل نشاط المجلس السابق الذي لم يسمع به أحد..
السبب الرابع للنتائج التي حصلنا عليها، شكل الحملة الانتخابية نفسها، فلم نسمع بشيء اسمه البرامج الانتخابية لا من الجبهة ولا من خارج الجبهة. وأصبح هناك عملية استفزاز لشعور الجماهير الفقيرة من قبل تماسيح المال جراء البذخ الكبير في العملية الانتخابية، والمتوقع أن يقوى، فالحال من ضيق إلى أضيق، وتراكم الثروة في ازدياد، وتماسيح المال هؤلاء هم ممثلو من تمركزت الثروة بين أيديهم، وهو تعبير عن وجود تناقض في المجتمع، لذلك فالناس أحجمت. ما العمل إذن؟ العمل يكمن في النتائج التي ذكرناها من خلال انفراج اقتصادي اجتماعي.. الوصول إلى نظام انتخابي فعّال أقرب إلى النسبية، ويجب محاسبة المجلس الحالي على نشاطه ككل ونشاط أفراده فرداً فرداً، ومنع الإعلان الاستفزازي بالانتخابات الذي تجاوز المرسوم المتعلق بتحديد سقف الدعاية الانتخابية بـ 3 ملايين ل.س، لأنهم تجاوزوه بعشرات الأضعاف.
إن هذا الاتجاه العام بحاجة إلى تفكير وعمل وجهد من قبل جميع القوى النظيفة والشريفة في المجتمع.