كيف أصبحت شيوعيّاً؟
ضيفتنا لهذا العدد
الرفيقة القديمة فكرية ميرو.
الرفيقة المحترمة أم يوسف نحييك ضيفة عزيزة.. ونسألك أن تحدثينا كيف أصبحت شيوعية؟.
أنا من مواليد بلدة الدرباسية عام 1929، لم أتمكن من متابعة تعليمي بسبب زواجي عام 1946 من الرفيق عبد الأحد عبدلكي الذي رآني مصادفة عندما زار بيتنا، وقد نلت إعجابه من النظرة الأولى، وعاد بعد مغادرة البيت بدقائق ليراني مجددا بحجة أنه نسي قلمه، وماهي إلا أيام قليلة حتى جاء والده وخطبني من أبي، وتمت الموافقة وتزوجت وانتقلت إلى بيت زوجي في عامودا، ومنذ ذلك الحين ارتبطت حياتي بحياته، فصار من الصعب عليّ أن أتذكر ما مضى من عمري إلا وأتذكر ذلك الزوج الرفيق الذي كان وراء تعرفي على الفكر والعمل السياسي، على النضال، على الحزب.
بدأت العلاقة عادية ثم تطورت وأضحت حميمية وحّدت بيننا لنكون معا في السراء والضراء، ولأحمل قسطي من معاناته وعذابه بحيث أصبح الحديث عما مضى حديثا عن اثنين لا عن واحد. كنت أرافقه في كل نشاطاته العامة وفي الاحتفالات والمظاهرات، وزوجي أبو يوسف من مواليد عامودا عام 1919، درس الابتدائية ثم عمل في النجارة، ثم في الميرا، وفي وقت لاحق عمل في التجارة ثم في الصحافة. انتسب إلى الحزب الشيوعي السوري عشية جلاء الاحتلال الفرنسي عن أرض الوطن عام 1946، وقد قال لي: إن قراءته لكتيب (الحياة في موسكو) كانت حافزا له لقراءة الكثير من الكتب السياسية والفكرية التي لاقت قبولاً في نفسه، وأقنعته بالفكر العلمي وبالاشتراكية، فسعى لإقناع غيره بهذا الفكر، ونجح في إيجاد حلقات صغيرة من (أصدقاء الفكر) وانضم معهم إلى صفوف الحزب وحضروا كونفرنس المنظمة، ومن حينها بدأت رحلته النضالية الطويلة.
في عهد ديكتاتورية حسني الزعيم اعتقلنا معاً، وفي المخفر جرى تعذيبه بهمجية قرب درج البناء ثم دفعوه ليهوي على الدرج إلى الأسفل، وهو على آخر رمق، وبعد خروجي من المخفر التجأت إلى غرفة في أحد البساتين للتواري عن أنظار عناصر الأمن.. لقد كان معروفا بصلابته حيث لم يدل لأجهزة الأمن بأية معلومة رغم اعتقاله اثنتي عشرة مرة وما رافقها من جولات التعذيب الوحشية، كذلك اعتقلونا معاً في عهد دكتاتورية أديب الشيشكلي وبدؤوا بتعذيبه ليدلي بما يعرف من معلومات، وأنا أرى ما يجري بمرارة وألم شديدين، عندها قال لهم: إن تطلقوا سراح زوجتي فسوف أخبركم بما تريدون! فقالوا: وماالذي يضمن لنا أنك ستخبرنا بما لديك؟ قال الضامن أنني بين أيديكم، فأطلقوا سراحي، وأسرعت للاختباء في مكان آمن، ولما تأكد من نجاتي من الخطر رفض الإدلاء بأي شيء، فعادوا لتعذيبه بكل لؤم وشراسة لدرجة أنه أصبح على وشك الموت الأكيد!
وتشاء الظروف أن يتوقف التعذيب بسبب دخول القائمة على (المحل العمومي) بالقامشلي واسمها (كليزار) وكانت على علاقة عميقة برئيسهم، ولم تتحمل رؤية هذا التعذيب، فتوسلت إليه أن يوقف ذلك، فاستجاب لها وأوقف إجرامه.
وفي إحدى المرات كان بين أيدي الشرطة في الطريق، وهم يضربونه بشدة فتقدمت منهم بعض النسوة محتجات على هذا الأسلوب الوحشي، وكانت بينهن جدة الأديب لقمان ديركي التي استطاعت انتزاع بارودة أحدهم. ومن (الطرائف) التي رواها الكاتب حسيب كيالي أنه خلال اعتقاله في سجن المزة العسكري سأله زوجي أبو يوسف بعد عودته من (نوبة تعذيب): يا رفيق حسيب أيهما أفضل أثناء التعذيب أن أهتف بسقوط الاستعمار أو بسقوط الديكتاتورية؟! فأجابه (بكفي تقول آخ !!). لقد كان زوجي أميناً عفيف النفس، ومثال ذلك (أيام كان يعمل في الميرا) أن أحدهم حاول رشوته وهو يزور بيتنا بتقديم حقيبة فيها مال، فرماها زوجي من نافذة غرفتنا قائلاً: إن الشيوعيين لا يرتشون. ومما أذكره باحترام وتقدير أنه كان مثقفاً مطلعاً على التراث النظري، وفي أواخر الأربعينات حدث خطأ بهويته الشخصية حيث سجل مكان اسمه الحقيقي اسم آخر مما أتاح له أن يكون مراسلاً للحزب بين سورية ولبنان خلال الملاحقات دون توقيف رغم كونه مطلوباً باسمه الحقيقي، وقد اتبع عدة دورات حزبية مع الرفيق نجاة قصاب حسن، وقاد منظمة الجزيرة، وأصبح عضواً في اللجنة المركزية للحزب، وعمل بشكل كثيف متواصل بين الفلاحين وفي محو الأمية ونظّم العشرات منهم.
وفي أوائل الخمسينات أخضع مع بعض الرفاق لمحكمة حزبية لم تثبت قيامه بأي عمل مناف لخط الحزب أو أية ممارسة مسيئة له، إلا أن وضعه الحزبي جُمّد، وفي نهاية الستينات عمل في الصحافة بمجلة (الكفاح المسلح) مع عفيف البزرة ثم صار رئيسا لتحريرها، وظل مبدئياً وفياً للحزب والشعب والوطن حتى وفاته عام 1984. وفي أواخر الثمانينات رد له الاعتبار خلال مؤتمر الرفاق بتنظيم النور.
أيها الرفاق الأعزاء.. اليوم ورغم كل الصعاب والمحن التي يتعرض لها وطننا والحياة السياسية فيه، فإنني أرجو وأنتظر أن يستعيد الحزب دوره الكفاحي الناصع ووجهه النقدي على المستوى السياسي والمطلبي الطبقي، وألا تغيب عنه النزعة الأممية، وذلك لأن مصير البشر في كل العالم مرتبط... بل واحد.