الافتتاحية ما وراء ارتفاع الأسعار؟؟
عشية شهر رمضان، شهدت الأسواق السورية موجة جديدة من ارتفاعات الأسعار، لتضاف إلى الموجة التي سبقتها مؤخراً بعد انتشار الإشاعات عن رفع دعم المحروقات الذي لم يتم في حينه، وهذه الموجات المتلاحقة لارتفاعات الأسعار وخاصة للسلع والخدمات التي تهم المواطن البسيط، تؤثر بشكل سلبي ومؤلم على مستوى المعيشة الذي هو أصلاً دون المستوى المطلوب.
وقد واجهت الحكومة هذه الارتفاعات في الأسعار بموجات من تصريحات بعض مسؤوليها الذين هددوا بالضرب بيد من حديد على كل من يتلاعب بالأسعار، محاولين إيهام المواطن أن تاجر المفرق هو المسؤول عما يجري، والحقيقة أن السبب الحقيقي هو في مكان آخر، والأصح القول: إن جملة الأسباب الأساسية تكمن في السياسات المتبعة وطرق المعالجة.
لقد حذرنا سابقاً من فقاعة النمو التي تبجح بها الفريق الاقتصادي كثيراً، وقلنا إن النمو الحقيقي يجري عادة في قطاعات الإنتاج المادي. وإن أرقام النمو إذا جرت في أماكن أخرى مثل قطاع الخدمات، والمال، والمصارف، فإن ذلك لن يعدو كونه إلا فقاعة ستنفجر، وها هي تنفجر اليوم بالتدريج في وجه الفريق الاقتصادي، وتتجلى في الارتفاعات المستمرة في الأسعار التي هي تعبير عن خلل عضوي في السياسات والإدارة الاقتصادية.
والأدق إن سيل الاستثمارات في قطاع العقارات والأراضي هو الذي أرسى أساس المشكلة التي نعيشها اليوم، والتي يجني ثمارها المرّة المواطن البسيط. وما محاولة تحميل المسؤولية لتاجر المفرق إلا محاولة بائسة لإبعاد الشبهات عن المتهم الأساسي الذي تسبب في خلق الأجواء الحالية.
إن هذه السياسات قد خفضت هامش الأمان الذي يتمتع به الاقتصاد السوري بسبب ديونه المنخفضة واحتياطاته الكبيرة من العملات الصعبة وإنتاجه الوفير من النفط، خفضته إلى حده الأدنى، لدرجة أن أي رفع «مفتعل» للطلب كما يحدث الآن أصبح مؤثراً بشكل كبير على السوق والأسعار والقوة الشرائية لليرة.
والواضح أن العدو الخارجي الذي يتربص ببلادنا، يحاول استخدام نقطة الضعف هذه لخلق عدم استقرار اقتصادي، وتوتر اجتماعي، يؤديان بنهاية المطاف لخدمة أهدافه السياسية، لذلك أصبحت الجبهة الاقتصادية في الداخل هي جبهة مواجهة من الدرجة الأولى بامتياز..
وكان الطين سيزداد بلة لو استطاعت القوى الداعية لرفع الدعم عن المحروقات من تحقيق مآربها، إذاً كانت الأسعار سترتفع حينها بشكل ضخم وسريع مع كل ما يحمله ذلك من مخاطر هزات وفوضى....
إن البعض من الليبراليين الجدد في بلادنا يبررون سلوكهم في تصريحات رسمية، بأنهم يسعون لتحقيق اقتصاد الوفرة في مواجهة اقتصاد الندرة الذي يسبب طوابير من الدور حتى على علب المحارم.
والحقيقة أن هذه الوفرة التي يتحدثون عنها، وبالاستفادة من تجارب البلدان التي سارت على هذا الطريق، كانت وفرة بضائع متنوعة ومختلفة على رفوف المخازن، ولكن بآن واحد شح كبير في جيوب المواطن، لا يسمح له إلا بالتفرج على هذه الواجهات الوفيرة... وهم بهذا الطرح يريدون وضعنا أمام ثنائية وهمية جديدة: إما وفرة، أو ندرة بضائع في السوق، مع أن محرك الطلب، ليس عرض البضائع نفسها، وإنما القدرة الشرائية للطلب المتمثلة في الأجور، ومستوى الأسعار نفسه.
إن حكومة توفر البضائع بحرية، ولا توفر الطلب عليها، لا تختلف كثيراً عن حكومة تؤمن أجوراً اسمية جيدة، ولا تؤمن السلع والخدمات الضرورية للمواطن.
والمطلوب اليوم، هو سياسة دولة تؤمن أجوراً محترمة لمواطنها، وبالمقابل قدرة سلعية محترمة قادرة على التوازن مع الأجور.
هذا هو خيارنا الذي يؤمن كرامة الوطن والمواطن.