الافتتاحية «العصا والجزرة» مجدداً!!
جلبة إعلامية ودبلوماسية كبيرة نسبياً أحدثها صدور تقرير أجهزة الاستخبارات الأمريكية بخصوص إعلانه صراحة «عدم وجود برنامج نووي عسكري إيراني منذ نهاية 2003 بفضل الضغوط الدولية» و(الحرب على العراق)، وذلك في تطور قرأه بعض المراقبين ووكالات الأنباء بأنه «تعارض مع رأي إدارة بوش التي تسعى لتشديد العقوبات على طهران وتغيير في الإستراتيجية الأمريكية تجاه إيران وملفها النووي»، علماً بأن بوش ذاته أكد ذاك «التعارض» في اليوم التالي، معلناً تمسكه بموقفه الذي «يبقي على كل الخيارات على الطاولة في وجه إيران التي كانت ولا تزال وستبقى خطرة»، مثلما فعل الاتحاد الأوربي وفرنسا اللذان قالا إن لا تغيير في موقفهما في أعقاب التقرير المذكور لجهة ضرورة إبقاء الضغوط على إيران.
ردود الفعل المتباينة حول التقرير الذي سرب ما أريد تسريبه منه في البداية من مضامين «التعارض»، لم تلحظ بقية ما جاء في التقرير من اعتقاد واضعيه - الذين أكثروا من استخدام عبارة «نعتقد بدرجة متوسطة من الثقة...»: أن «إيران تبقي خيار تطوير أسلحة نووية مفتوحاً»، ولكنها «تواجه مشاكل كبيرة في تشغيل أجهزة الطرد المركزي في نطانز»، وأن «أقرب موعد يمكن أن تصبح فيه قادرة تقنياً على إنتاج كمية كافية من اليورانيوم المخصب لإنتاج أسلحة، هو العام 2009» ولكنها «لن تكون قادرة تقنياً على إنتاج ومعالجة كمية كافية من البلوتونيوم للأسلحة «قبل 2015 تقريباً».
ومن جملة الأسئلة التي طرحها بعض المتابعين في أعقاب ذلك: أهي رسائل متناقضة تطلقها الإدارة الأمريكية وأجهزتها تمويهاً عن مغامرة عسكرية جديدة تنويها وتواصل استعراضات القوة بخصوصها مع الاستمرار بمحاولات احتواء إيران دولياً وإقليمياً، بمعنى المضي في محاولات خلق البلبلة في الداخل الإيراني لمحاصرة أنصار تيار المواجهة مع واشنطن «المتشددين»؟ أم أنها انعكاس للخشية الأمريكية من عواقب الاستمرار بذهنية تصدير الأزمة الداخلية الأمريكية بصورة شن الحروب وتوسيع رقعتها، وسط انقسام بين من تبقى من «صقور» إدارة بوش وحلفائهم من جهة، وعسكرييه الغارقين في العراق وأفغانستان من جهة أخرى، تحسباً من مصادر القوة الإيرانية التي لا يستخف بها وإمكانيات ردها واحتمالاته ؟
فماذا يعني إيحاء أجهزة الاستخبارات الأمريكية بأنها تمسك بالعصا من المنتصف الآن؟
بالتوازي مع خلق البلبلة داخل إيران من خلال «الجزرة» المقدمة لطهران التي وظفت ذلك إعلامياً بأنه إثبات لمصداقيتها، فمن الواضح أن صدور هذا التقرير، يعني إيجاد تقاسم وظيفي جديد في الأدوار بين أقطاب الإدارة الأمريكية وأجهزتها، والعودة إلى النفخ بمزمار الثنائيات الوهمية من شاكلة وجود «صقور» و«حمائم» داخل تلك الإدارة، مثلما كان الوضع قبل غزو العراق واحتلاله، دون أن يعني ذلك تغييراً على أرض الواقع، إلا بعد خروج الشخص المعني من موقع مسؤوليته (كولن باول مثالاً). والآن هنا مرة ثانية، وفي ظل حالة التخبط الأمريكي من تحديد نمط واضح وواحد وثابت ومضمون النجاح تجاه إيران، هناك من يلغي بشكل معلن أرضية العمل العسكري، وهناك من يتمسك بها بشكل معلن أيضاً، فإذا وجدت الإدارة ذاتها مضطرة لذلك وسارت العملية وفشلت، فيجري تحميل تبعات ذلك لطرف واحد (هو بوش في هذه الحالة وهو في آخر أيامه بكل الأحوال)، لتنجو بقية أركان النظام ضماناً لاستمراره (الأجهزة)، وإذا نجحت العملية (افتراضاً)، فيجري تجاوز موضوع التصريحات السابقة ليتحول إلى «انتصار وطني».
وعلى اعتبار أن النظام الإيراني الحالي بمواقفه الراهنة، وليس ببرنامجه النووي، هو ما يعد أحد مصادر تهديد المشروع الأمريكي الصهيوني في المنطقة، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل تغيرت فعلاً الإستراتيجية الأمريكية تجاه المنطقة لتتغير تجاه إيران ضمناً؟، وهل تخلت واشنطن عن أحد أهدافها المتمثلة في استكمال الاستيلاء على مصادر الطاقة في المنطقة من أجل مواجهة الخصوم الكبار في أوربا والصين وروسيا بالمعنى الاقتصادي-النفطي-المالي/الدولاري المأزوم؟
وعلى هذا الأساس، ولأن بقية التطورات في المنطقة لا توحي بتغير جوهري في تلك الإستراتيجية، فإن هذا التعارض بكل المعاني السابقة وبارتباطه بتطورات المنطقة، يأتي كأحد تجليات «ما بعد أنابوليس» الذي أُريد منه الاستمرار بخلق اصطفافات جديدة في التحالفات المطلوبة لإزاحة «العراقيل» التي تشكل استعصاءات أمام استكمال أهداف المشروع الأمريكي الصهيوني في المنطقة. ومن بين ذلك على سبيل المثال الحديث الإسرائيلي الصريح عن «محور تحالف المعتدلين العرب»، والحديث التركي الصريح عن «ضرورة إبعاد سورية عن إيران»، والسعي الأمريكي للإبقاء على الفراغ في لبنان، أو كل مالا يشكل انفراجة حقيقية فيه، وقطع الوقود والغاز والكهرباء عن قطاع غزة في حملة إبادة جماعية تدريجية باتت متسارعة ضد أكثر من مليون ونصف فلسطيني يراد تصفيتهم مع قضيتهم، ضمن محاولة تكريس حسم الصراع العربي الإسرائيلي لصالح المعتدي التاريخي.