أولويات مواجهة الأزمة المتصاعدة..
أصبح واضحاً أن الأزمة الاقتصادية العالمية التي تعاني منها الرأسمالية سائرة نحو تصاعد متسارع، وأن آفاقها الزمنية مفتوحة نحو أعوام عديدة قادمة، وهي تضع كل هذا النظام على حافة الانهيار.
والأمر كذلك، يجب أن نحسن قراءة تداعيات هذه الأزمة على الاقتصاد السوري وكيفية تحصينه، كي يصاب بأقل أضرار ممكنة. وفي تجربة تأثير الموجة الأولى من الأزمة على الاقتصاد السوري دروس هامة يجب استخلاصها، فتأخر الاقتصاد السوري عن اللحاق السريع بركب العولمة، كما كان يريد البعض، أدى إلى تأخير صنع تلك الروابط المالية، مثل سوق الأوراق المالية التي افتتحت مؤخراً، القادرة على شفط الثروات من الأسواق الهامشية إلى الأسواق الرئيسية في حال حدوث هزات في الأسواق الرئيسية، ونعتقد أن هذا التأخير لم يكن مصادفة، بل كان في نهاية المطاف هو محصلة صراع القوى الجاري في المجتمع السوري حول آفاق تطوره.
فلنتصور لو أن سوق الأوراق المالية منجزة منذ خمسة أعوام مثلاً، فما كانت الأحوال اليوم؟ لنعرف ما هي الأحوال الممكنة، فإن نظرة مقارنة إلى الأسواق المجاورة تسمح بتوقع ما كان سيحدث لنا خلال الموجة الأولى التي كانت أضرارها بسيطة نسبياً على الاقتصاد السوري، فالأسواق التالية خسرت من قيمتها خلال عام 2008 النسب التالية: دبي: 72 %، السعودية: 57 %، مصر: 54 %، أبو ظبي: 47 %، عُمان: 40 %، الكويت: 38 %، البحرين: 34 %، قطر: 28 %، عمّان: 25 %، بيروت: 21 %، فهل بعد ذلك يمكن الندم على تأخر افتتاح السوق السورية؟
المهم الآن التفكير بآثار الموجة الثانية الآخذة بالتصاعد، والتي ستضرب بشكل أقوى من الموجة الأولى، ولكن هذه المرة ليس الأسواق المالية، وإنما الاقتصاد الحقيقي، وبوادر هذه العملية بدأت تتضح في الاقتصادات الرأسمالية المتقدمة، فإذا استمر الميل نحو انخفاض أسعار المواد الخام، وارتفاع أسعار المواد المصنّعة نتيجة انخفاض أسعار العملات العالمية، يمكن القول ببساطة إن نسب النمو المتوقعة في الاقتصاد السوري لن تتحقق، بل ستسير نحو التراجع، وخاصة أن صندوق النقد الدولي يؤكد في تقاريره الأخيرة أن نمو الاقتصاد العالمي سيكون سالباً، وهذا الأمر سيؤدي إلى ازدياد عجز الميزان التجاري، وسيعاني ميزان المدفوعات من صعوبات كبيرة، أما تدفق الاستثمارات الخارجية المعول عليه، فيجب نسيانه مع كل ما يحمل ذلك من خطر على المؤشرات الحيوية للاقتصاد السوري التي ستؤثر سلباً على نسب البطالة والفقر، والأخطر على الأمن الغذائي نفسه، وبالتالي على احتياطي سورية من العملات الصعبة الذي تكوّن خلال عقود من عرق وجهد الشعب السوري والذي كان بمثابة «القرش الأبيض لليوم الأسود».
فما العمل بهذه الحال؟ وهل يجوز أن تبقى الأولويات في الخطة الاقتصادية كما كانت سابقاً قبل اندلاع الأزمة العالمية؟ وهل نسي البعض ضرورات التكيف مع الوقائع الجديدة والتي كانت حجتهم إلى حين، بهدف الاندماج بالاقتصاد العالمي وأخذ وصفاته الجاهزة للتطبيق المباشر دون تفكير أو تبصر؟ نعم المطلوب اليوم التكيف تماماً مع الوقائع الجديدة، ولكن التكيف الذي يحمي، ويحصّن الاقتصاد السوري والمجتمع السوري من الهزات والأزمات، فهل يمكن ذلك؟ نعم يمكن، إذا اتفقنا أنه لدينا ثلاث أولويات يجب تعبئة كل الجهود والإمكانيات والأدوات والخطط باتجاه تأمينها السريع بشكل إسعافي وإنقاذي وهي:
1 – الأمن الغذائي.
2 – الأمن المائي.
3 – تأمين الطاقة الضرورية والرخيصة نسبياً لحسن سير الاقتصاد الحقيقي والاستهلاك الشعبي الواسع.
إذا اعتمدت هذه الأولويات فهذا يجب أن يعني:
1 - إيقاف كل هذه الاستثمارات فوراً خارج هذه القطاعات إلى حين تجاوز الأزمة، وتحفيز القطاعين العام والخاص للسير بهذا الاتجاه.
2 – توجيه كل الاستثمارات المتوفرة، والتي يجب توفيرها، نحو هذه القطاعات بموجب خطة محكمة تؤمن حسن سيرها اللاحق.
3 - إعادة النظر برفع الدعم عن المحروقات، وإعادة توزيعه باتجاه يضمن الأمن الغذائي والمائي والطاقي، والبدء بالتفكير بعدم استبعاد إمكانية العودة النشيطة لدعم بعض المواد التموينية الأساسية للاستهلاك الشعبي الواسع.
4 - تعبئة الموارد الداخلية وتأمين الضروري منها لاستثمارها في القطاعات الحيوية، واستخدام آليات تأثير الدولة لتشجيع هذا الاتجاه من سياسات ضريبية ومالية وقانونية، وهنا ترتدي قضية الاستيلاء على موارد الفساد بشكل حازم وإعادة توجيهها نحو القطاعات الحيوية أهمية قصوى لنجاح هذه العملية، التي بدونها من المشكوك فيه النجاح في هذا الاتجاه.
5 - إعادة النظر بكل الاتفاقات والشراكات العربية والدولية التي لا تخدم هذا الاتجاه، بل عقد اتفاقات وشراكات جديدة تخدم هذا الاتجاه فقط لا غير.
إن فتح نقاش سريع في المجتمع وبين الجهات المعنية بالأمر من رسمية وشعبية وتخصصية، أصبح ضرورة حيوية لا تقبل التأجيل، وبما أن مصلحة الوطن والمواطن هي التي تحكم سلوك ومواقف القوى النظيفة في جهاز الدولة والمجتمع، والتي تشكل بمجموعها قوة حاسمة، فإن الوصول إلى توافق حول هذه الأمور هو ضمانة لتعزيز كرامة الوطن والمواطن.