أبعد من «همدان» بكثير..!
ترتدي مسألة انطلاق الطائرات الروسية من قاعدة «همدان» العسكرية الإيرانية أهمية خاصة ليس لارتباطها في تنشيط ودعم العمل الروسي الدؤوب في مواجهة «داعش» وغيرها من التنظيمات المصنفة إرهابية، باتجاه التضييق عليها وإضعافها وتمهيد الأرضية للسوريين لاجتثاثها فحسب، بل للدلالات السياسية الإقليمية والدولية العميقة التي ينطوي عليها تطور من هذا الوزن والعيار، كتعبير أكثر ملموسية عن طبيعة التحولات الجارية في ميزان القوى العالمي، والمشهد الجيوسياسي دولياً، وتأثر شكل سورية المستقبل بهذا المشهد بطبيعة الحال، في نهاية المطاف..!
تقول الوقائع التاريخية والجارية: إن موسكو وطهران لم تربطهما علاقات جيدة منذ أيام الاتحاد السوفييتي وروسيا القيصرية مع وجود خلافات حدودية أيضاً، وذلك سواء عندما كانت طهران تحت وصاية النفوذ البريطاني، أم في عصر الأحادية القطبية الأمريكية، وهي تقول بالتالي: إن العلاقات لم تكن خلال 100 سنة ماضية على الأقل كما هي عليه اليوم في ضوء العلاقات التجارية والاقتصادية (1.5 مليار دولار سنوياً، مخطط لها أن تصل إلى 10 مليارات بحلول 2020) وما تبعها من العلاقات السياسية والعسكرية القائمة حالياً بين البلدين.
وسم العلاقات بمجملها..!
ومن خلال ربط هذا الوضع بجملة المتغيرات الثقيلة التي تشهدها منطقة شرق آسيا، من ضمن التغييرات العالمية التي يظهر فيها تباعاً الضعف والتراجع الأمريكيين على المستوى الدولي، يمكن الاستنتاج بأنه سيسم جملة العلاقات فيما بين دول تلك المنطقة، لجهة حل وتجاوز جملة الاختلافات والنزاعات التي سادت في حقبة الهيمنة الأمريكية، والتي كانت تسمح لـ«الأمريكي» بالنفاد والتمدد من خلال الشقوق التي كان يغذيها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
الآن ثمة قوى صاعدة بمشاريعها، وثمة قوى هابطة بأدواتها. ثمة زيادة تبلور وازدهار مشاريع عظمى مثل «طريق الحرير» و«منظمة شنغهاي» و«الاتحاد الأوراسي»، مقابل احتمال تفكك «الاتحاد الأوربي» أو تغير شكله ووظيفته كحد أدنى. هناك ضعف في نفوذ أدوات الهيمنة الاقتصادية الأمريكية التقليدية من شاكلة صندوق النقد والبنك الدوليين، بحكم وجود أطر أخرى بديلة، مع ما يعنيه ذلك من انخفاض مستوى النفوذ الأمريكي، بحكم الأزمة الاقتصادية أساساً وتبعاتها العسكرية والسياسية، التي تجد ترجمتها في الانسحاب الأمريكي العسكري المباشر من مناطق بأكملها، واحتفاظها في الأحوال كلها بأوراق ضغط وتوتير بغية تنظيم تراجعها، منعاً للانهيار المباشر والمباغت والكلي، ومشاغلة الخصوم الاستراتيجيين إلى أبعد مدى ممكن، لا أكثر..!
عن ماذا يجري الحديث هنا؟
- هناك قوتان عظمتان كامنتان بمواردهما كافة، هما روسيا والصين، انتقلتا من «الدفاع» إلى «الهجوم» على المستوى العالمي في سياق تثبيت وجودهما الجيوسياسي الدولي الوازن (من الفيتو المزدوج الرباعي بخصوص سورية، إلى إيجاد الصناديق والمشاريع المالية والنقدية والاقتصادية وحتى البحثية العلمية البديلة، مروراً بالتصريحات السياسية التي تثبت القانون الدولي، انقلاباً على شريعة الغاب الأمريكية، وحتى بالمناورات العسكرية واستعراضات القوة).
- انضمام الهند إلى منظمة شنغهاي سحب من يد واشنطن الرهان على تحولها إلى «حصان طروادة» داخل مجموعة «بريكس»، باتجاه سحبها منها للدوران في الفلك الأمريكي الآفل، وهو يعني أن الهند تدرك متطلبات مصالحها الوطنية العميقة.
- انضمام الهند وباكستان إلى المنظمة ذاتها وأطرها التحالفية المختلفة، مالياً واقتصادياً وسياسياً وعسكرياً وأمنياً يسمح بإيجاد المناخ الذي يؤمن حلحلة الصراعات التاريخية بين الجارين النوويين.
- ترشح إيران للانضمام إلى شنغهاي، من جهة، وحقيقة انطلاق قاذفات روسية من أراضيها في همدان مؤخراً، من جهة ثانية، يأتي أحد ثمار جهد كل من طهران وموسكو وذكائهما في حل مسألة الملف النووي الإيراني وتثبيت الحقوق النووية لإيران، ومنع حتى التلويح بالضربات العسكرية الأمريكية عليها تحت هذه الذريعة، ورفع العقوبات الغربية ذات الصلة، تباعاً.
وصل استراتيجي
هذا الوضع بمجمله يؤسس لوصل استراتيجي بين بلدان المنطقة على الصعد كافة، سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، واجتماعياً حضارياً ضمناً، بما يضع عبر تطوره مساراً معاكساً لمفرزات عصر الهيمنة الاستعمارية بشكليها القديم والجديد، ليضع في نهاية المطاف أساساً مادياً صلباً لبناء اتحاد شعوب الشرق، كإحداثية جديدة في المشهد العالمي، أو كمتغير يعيد رسم الخريطة الجيوسياسية العالمية تثبيتاً لوقائع التراجع الأمريكي، أي تراجع عصر الهيمنة الإمبريالية، وظهور عالم «جديد» حقاً.
ماذا عن تركيا؟
الآن إذا كانت موسكو قد شكلت السند الدولي في تخليص إيران من صراعها المرير مع الغرب على أرضية الملف النووي، لجهة حله، فإن ما تفعله موسكو وطهران معاً الآن مع أنقرة، في ضوء التحولات الدولية الجارية، هو سحبها من إحداثياتها السابقة، ومعضلاتها القائمة، تدريجياً: تركيا حليف تاريخي وقاعدة أمريكية- أطلسية تقليدية. تركيا ذاتها وبغض النظر عن سياساتها الابتزازية كلها مع الاتحاد الأوربي- المأزوم ذاته- فهو لا يزال يغلق الأبواب دونها، وإلى أجل غير مسمى. «الأمريكي» المتخبط بجناحيه «الفاشي» و«العقلاني» ينسحب عملياً، وإن اختلف شكل الانسحاب ووتيرته فيما بينهما. أي أن الدور الوظيفي الإقليمي التركي السابق بإحداثياته كلها تتآكل على المدى المنظور، فإلى أين المسير؟
بغض النظر عمن يحكم، أو سيحكم تركيا، وبعيداً عن مجريات اليوم المتعلقة بـ«الانقلاب الفاشل» وملابساته وتداعياته، فإن الحل الحقيقي لجملة الأزمات المالية والاجتماعية والسياسية والعسكرية التركية، بما فيها أزمتي سياساتها الداخلية تحديداً باتجاه القضية الكردية، وسياساتها الإقليمية، تحديداً باتجاه الأزمة السورية، يستدعي من أنقرة موضوعياً الاستدارة نحو الأطر والمشاريع والحلول الصاعدة عالمياً، ومرة أخرى بغض النظر عمن سيتولى إدارة هذه الاستدارة. وفي الأحوال كلها ثمة دلائل وإشارات في الخطاب السياسي التركي المستجد باتت واضحة بما يكفي بهذا الاتجاه، وإن كانت أولية بعد..! ولكنها تندرج على الأرجح في سياق متطلبات الحفاظ على التوازن في هذا المسار الصعب والمتعرج الحافل بالمشاكل المتفاقمة، وبحكم الحجم الكبير للقفزة المطلوبة، من المراكب الغارقة إلى أطواق النجاة، وامتلاك القدرة على القيام بها في لحظتها الحاسمة..!
«الخليج»: دوار دهليزي
أمام الدلالات الكبيرة في هذه التحولات، والتي تأتي «قاذفات همدان الروسية» في سياقها كأحد التفصيلات الاستراتيجية الهامة، لا تزال دول الخليج تعاني من «الدوار الدهليزي الأمريكي»، فلا هي قادرة على مواصلة السير في دهاليز واشنطن المأزومة، ولا هي قادرة حقاً على ملء فراغ الانزياحات القائمة بحكم الانسحاب الأمريكي، حتى ولو خيّل لبعضها أنها باتت قوى «عظمى» بحكم هذا الفراغ ذاته. وإن عروش الخليج هذه أمام هذه التحولات ستكون أمام احتمالين: إما الزوال، أو إحداث تغير جذري في الدور الوظيفي، بعيداً عن واشنطن، وانسجاماً مع المتغيرات الدولية في خدمة شعوبهم وشعوب المنطقة.
ليس حدثاً عابراً..!
وعليه، فإن السؤال التلقائي المشروع: ماذا عن سورية؟
بالمعنى المباشر، سورية الآن هي المستفيدة من مختلف أشكال العلاقات المطردة بين موسكو وبكين، وموسكو مع باقي بلدان «بريكس»، وموسكو وأنقرة، وطهران وأنقرة، وموسكو وطهران وتعزيز إسهامهما بمواجهة «داعش» انطلاقاً من همدان أو غيرها، على اعتبار أن ذلك كله يسير في اتجاه معاكس للسياسات الأمريكية المضطربة.
ولكن بالمعنى الأعمق، ولأن «قاذفات همدان الروسية» ليست بحدث عابر، وهي تعبير عن علاقات شراكة تقوم على الاحترام المتبادل وخدمة المصالح المشتركة، دون إلحاق أو تبعية، فإن طبيعة الحل المطلوب في سورية تصبح أكثر وضوحاً، ولاسيما لجهة تأمين الشروط والموجبات السياسية والاقتصادية الاجتماعية والديمقراطية كلها كاملة لوجود دولة وطنية قوية، بقوة وكرامة شعبها أولاً، وتتعامل بندية مع الأطراف الخارجية كلها، دولة تقوم بدورها الوظيفي المنسجم مع تموضعها الجيوسياسي تاريخياً، أي تلك التي تقطع عملياً مع الأطراف المعادية تاريخياً للشعب السوري كلها، ليس سياسياً، فوق الطاولة أو تحتها، فحسب، بل اقتصادياً ومالياً أيضاً، وتصل مع المسار الموضوعي لصعود «الشرق العظيم».