حميدي العبدالله حميدي العبدالله

حول المرجعية الفكرية للموضوعات البرنامجية

في كتابهما المشترك «لودفيغ فيورباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية»، أكد كل من ماركس وأنجلز أن نظريتهما العلمية لتحليل المجتمع والتاريخ، والطبيعة، كي تكون علمية حقاً، وللحؤول دون تحولها إلى أيديولوجية شأنها شأن بقية الإيديولوجيات، عليها بعد كل اكتشافات هامة في التاريخ والمجتمع، أو على مستوى العلوم الطبيعية، إعادة النظر ببعض الخلاصات والمسلمات التي توصلت إليها ضمن معطيات سابقة، وقد ألحا على هذه المسألة كثيراً، وطبقا هذا النهج في حياتهما، ومن يراجع تاريخ الاشتراكية العلمية، يجد أن هذه الرؤية العلمية والأسس التي استندت إليها شهدت إعادة صياغات بصورة دائمة، بدءاً من مخطوطات عام (1844)، مروراً بالبيان الشيوعي، وانتهاءً بوثيقة «نقد برنامج غوتا» التي شكلت أهم وآخر وأكمل صياغة للرؤية الاشتراكية العلمية.

ويمكن الاستنتاج بأن الجمود أحاط بالنظرية العلمية التي يسميها البعض بالماركسية- اللينينية، سببه عدم الوقوف أمام هذه المقولة العلمية والعمل بمقتضاها. إذ من المعروف أن المجتمع البشري شهد في العقود التي أعقبت رحيل ماركس وأنجلز مؤسسي النظرية العلمية، تطورات هائلة وكبيرة، كانت تفرض على مريديهم وأتباعهم مراجعة مسلمات هذه النظرية للتعرف على ما شاخ منها، وما ترسخ علمياً، ولكن عملية التطوير هذه لم تحدث، ولم يكن هناك جهد فكري خلاق لتطوير النظرية العلمية لتواكب ما شهده المجتمع من تحولات، كما شهدت العلوم الطبيعية ثورة هائلة، وقفزات نوعية تحتم مواكبة صياغة المسلمات في النظرية العلمية الماركسية التي استندت إلى نتائج العلوم في القرنين الثامن عشر والنصف الأول من القرن التاسع عشر، وهذه الثورة تجاوزت كثيراً ما تحقق عند صياغة ماركس- أنجلز لكثير من مسلمات نظريتهما العلمية، ولكن أيضاً لم يبذل جهد كبير، ويمكن القول إن الإضافات التي مثلتها ثورة أكتوبر في روسيا ودول الاتحاد السوفيتي السابق في ظل قيادة لينين، تركزت على المجال السياسي بالدرجة الأولى، فضلاً عن أنه في ظل حياة لينين لم يكن هناك تراكم كبير للاكتشافات والتطورات التي شهدها المجتمع والعلوم الطبيعية، ولم يكن لينين معنياً بالقيام بمراجعة واسعة لتطوير النظرية العلمية، بل إن هذه الاكتشافات والتطورات حصلت لاحقاً ولم تبذل جهود واسعة ومتناسبة مع حجم التطورات الحاصلة من قبل الذين تعاقبوا على قيادة الأحزاب الاشتراكية، سواء في المعسكر الاشتراكي أو خارجه، ولعل ذلك لعب دوراً كبيراً في تقهقر النظرية العلمية، وفقدانها لكثير من رياديتها وبريقها على عكس ما هو عليه حال صياغات ماركس وأنجلز في جميع الحقول التي لا تزال حتى يومنا هذا تحوز على تقدير علمي كبير، ولاسيما في مجال الاقتصاد السياسي، حتى لدى منظرين رأسماليين، لكنهم يتميزون بحصافة الفكر، ولا توجههم الأفكار المسبقة ضد النظرية العلمية ومؤسسها كارل ماركس. وبرز سطوع نظرية ماركس من جديد في ضوء عودة الكثير من المحللين الاقتصاديين إلى كتاب رأس المال الذي صاغه ماركس لفهم بعض ظواهر الأزمة الاقتصادية الراهنة.

إن إعادة النظر بكثير من مفاهيم النظرية العلمية التي صاغها كارل ماركس، وطورها في المجال السياسي فلاديمير إيلتيش لينين، ترتدي أهمية خاصة من واقع انهيار المعسكر الاشتراكي، حيث وضع هذا الانهيار في خانة انتصار الرأسمالية وواقعيتها من الناحية التاريخية، وجمود وعدم صلاحية النظرية العلمية، علماً أن أزمات الرأسمالية المتناسلة، وآخرها الأزمة الاقتصادية الحالية غير المسبوقة، أكدت على أهمية وحيوية النظرية العلمية، وصلاحية هذه النظرية الاستثنائية في تفسير وقراءة الكثير من الظواهر، وفشل الرؤية الرأسمالية بالقيام بهذا الدور.

لكن انهيار المعسكر الاشتراكي وتحول دوله إلى الرأسمالية، ساهم في إضعاف القوى السياسية، وبالتالي العمل الفكري، لتطوير مفاهيم النظرية العلمية لتحيط بالتطورات الهائلة التي شهدها المجتمع والطبيعة في القرن الماضي، ولتفسير أسباب انهيار المعسكر الاشتراكي، وصياغة مفاهيم فكرية علمية جديدة قادرة على استخلاص الدروس في تجارب الماضي، وتطوير المسلمات النظرية لتواكب الاكتشافات الجديدة في حقلي المجتمع والطبيعة.

لا شك أن إعادة إحياء مسيرة اليسار في الدول العربية، وعلى مستوى العالم، مرتبط بالنهوض بهذه المهمة التي ترتدي الأولوية على غيرها من المهام الأخرى، وبديهي أنه لا يكفي بعد الآن إعلان التمسك بالماركسية- اللينينية في مواجهة الردة الرأسمالية، بل إن فعالية الماركسية- اللينينية كمرجعية فكرية مرتبطة بالدرجة الأولى بتطوير محتوى الماركسية- اللينينية ليكون مواكباً للتحولات الكبرى، ولاسيما تلك المرتبطة بانهيار المعسكر الاشتراكي، وفي هذا السياق فإنه من الملح أن تناقش هذه المسألة بعمق الآن وفي المستقبل من أجل الوصول إلى هذه الغاية.

آخر تعديل على الجمعة, 22 تموز/يوليو 2016 19:39