الافتتاحية: نحو توجّه اقتصادي يقرّه المجتمع

مع انتهاء العام بعد أشهر قليلة، تنتهي آجال تنفيذ الخطة الخمسية العاشرة.. ويجب أن تنطلق الخطة الخمسية الحادية عشرة...

والواضح، إذا تجاوزنا مكابرة البعض، أن الخطة العاشرة لم تحقق أهدافها الأساسية المعلنة، بل في بعض الحالات جرى تراجع عوضاً عن التقدم المطلوب..

والسؤال الذي يتطلب الجواب هو: ما السبب العميق والحقيقي لعدم تنفيذ الخطة لأهدافها؟

هل السبب الأخطاء البشرية في التنفيذ؟ أم السبب هو الظروف الموضوعية، وخاصة الخارجية المتعلقة بالسوق الدولية والمناخ؟ أم أن السبب هو بعض الثغرات في بناء الخطة السابقة؟؟

لا يمكن إنكار دور الأسباب السابقة مجتمعة، ولكنها تبقى غير كافية لتفسير الفشل الذي أصاب الخطة في تنفيذ أهدافها، وخاصة في مجال أرقام النمو المستهدفة، ومكافحة البطالة، وتحسين مستوى المعيشة لأغلبية المواطنين.

لسنا في مجال إثبات كم هو البون شاسع بين الأهداف المطلوبة والمحققة، فقد أصبحت معروفة، ويلمس نتائج هذا الفارق الاقتصاد والمجتمع... والمطلوب إعطاء إجابات واضحة، ليس لتحميل مسؤوليات لأحد مع أهمية ذلك، بقدر وضع الأساس للانطلاق من جديد نحو الخطة الحادية عشرة، التي يجب أن تكون قادرة على مواجهة التحديات المنتصبة أمام البلاد، فالوقت لا يرحم، ولسنا بحاجة للانتظار خمس سنوات أخرى لإثبات ما أثبتته الحياة وحُسم أمره.

إن المشكلة في الخطة العاشرة، هي مشكلة معرفية، بنيوية فهي قد بنيت بمنطق يشوبه الكثير من الليبرالية الاقتصادية، والأنكى أن جرعتها قد زادت أثناء التنفيذ...

فهي حينما أرادت الوصول إلى أرقام نمو محدد، يمكن النقاش حتى اليوم حول فعاليتها وصلاحيتها لحل المشاكل الحقيقية أمام الاقتصاد والمجتمع السوري، لم تستطع إيجاد أكثر الموارد الفعلية لتحقيق هذا النمو إلا من خارج إطار الدولة وقطاعها.. فاعتمدت بالدرجة الأولى على مصادر تمويل خارجية مفترضة، على أمل أن مجيئها، بغض النظر عن القطاعات التي ستتوضع فيها، سيحل المشكلة، وسيسمح بالوصول إلى الأهداف المطلوبة.

وكان معروفاً منذ البدء أن تمويل الاستثمارات من خارج إمكانات الدولة إن كان محلياً أو خارجياً، هو مغامرة كبيرة وأمر غير مضمون البتة.. حتى ولو لم تتغير الظروف الاقتصادية وتتعقد بسبب الأزمة العالمية..

هو مغامرة كبيرة وأمر غير مضمون لسببين: الأول: أنها ستتجه بحكم طبيعة أي رأسمال نحو القطاعات الأكثر ربحاً، إذ بسبب تشوه البنية الهيكلية للاقتصاد السوري، تبقى القطاعات الريعية، التي لا علاقة لها بالإنتاج السلعي المنتج الأساسي لأية ثروة جديدة، هي الأكثر ربحاً.

الثاني: أن حركة الرساميل الخاصة الخارجية والمحلية يتحكم بمدها وجزرها إلينا، الوضع في السوق العالمية، وكان واضحا لكل متابع جدي أن السوق العالمية ذاهبة إلى أزمة جدية، ستفعّل من عوامل جزر تدفق الرساميل الخاصة إلى الاقتصاد السوري...

بكل الأحوال لم تتحقق آمال ورغبات وتوقعات واضعي ومنفذي الخطة، الأمر الذي يحمل في طياته خللاً بنيوياً في منطق التفكير، وخللاً بنيوياً آخر، ليس أقل خطراً في منطق التنفيذ.

وأهم درس يجب الاستفادة منه هو أنه لامناص من الاعتماد على الموارد الداخلية وتعبئتها، وهي موجودة، ولكنها مبعثرة ومفرط بها عبر النهب والفساد اللذين يتعرض لهما قطاع الدولة، والدولة ومواردها، والمجتمع.

ومن المفيد هنا أن نتذكر أن المرحلة التي حوصرت بها سورية اقتصادياً في ثمانينيات القرن الماضي قد شهدت بالذات أرقام نمو عالية نسبياً بسبب الاتجاه نحو الموارد الداخلية وتعبئتها بكل الأشكال.. وللمفارقة فإن أرقام النمو تلك أعلى من تلك التي تتحقق اليوم في مرحلة ما يسمى بالانفتاح... فما المطلوب اليوم؟

إن الإطار العام للخطة الجديدة واستهدافاتها الجديدة هو أمر هام وخطير، يتعلق بمصير البلاد وخاصة في هذه اللحظة الانعطافية الخطرة التي تمر بها منطقتنا والعالم، والحل الوحيد أمامنا هو نجاح الخطة الحادية عشرة صياغةً و تنفيذاً، الأمر الذي يتطلب أوسع نقاش ديمقراطي، شفاف وعلني، في المجتمع حول إطارها العام وأهدافها، وتفعيله إلى الحد الأقصى عبر وسائل الإعلام المختلفة بحيث تستطيع كل الشرائح الاجتماعية أن تعبر عن طموحاتها..

لذلك يجب أن يقدم الإطار العام لمشروع الخطة وأهدافها بشكل مفهوم وبسيط إلى النقاش الشعبي العام، وأن تتحدد وسائله وآجاله، وأن يتوج كل ذلك بمؤتمر وطني يضع التصورات العامة النهائية للإطار المطلوب، يشارك فيه ممثلو كل الفعاليات الاجتماعية والاختصاصيون، وبعد ذلك يصبح ممكناً الوصول إلى توافقات اجتماعية تضمن استقرار الاقتصاد ورضا أكثرية المجتمع..

أما إبقاء صياغة الخطة الجديدة حبيس جدران بعض الموظفين، مع إيماءات توحي بنقاش ما حولها، فهو أمر لا يمكن أن يصب جدياً في اتجاه تعزيز كرامة الوطن والمواطن..