من النجاح بامتحان التفسير إلى المضي في تحدي التغيير..
قدم مجلس اللجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين السوريين في «الموضوعات البرنامجية» التي أطلقها للنقاش العام، رؤية مادية علمية تحليلية واسعة وعميقة لمعظم القضايا الاقتصادية والسياسية محلياً وإقليمياً وعالمياً، مستنداً في ذلك حقيقة «إلى المرجعية الفكرية الماركسية- اللينينية البعيدة عن العدمية والنصوصية» في آن، ومنطلقاً من خطوة أساسية مصيرية هي «ضرورة» استعادة الشيوعيين السوريين لـ«دورهم الوظيفي- التاريخي».. خصوصاً وأن الظرف الموضوعي مؤات جداً مع تفجر الأزمة الرأسمالية الاقتصادية العالمية التي هي «أزمة عميقة متعلقة ببنية النظام الرأسمالي نفسه المنتج دائماً للأزمات».. وهذا بحد ذاته مستوى عال من الاجتهاد الفكري والسياسي سيكون له أثر بارز على الساحة السياسية في سورية، وربما خارجها.
«الموضوعات البرنامجية» التي يجب أن ترتقي سريعاً لتصبح «مهاماً برنامجية» شاملة وملموسة ومحددة بآجال زمنية وبآليات عمل، أكدت أيضاً برؤيتها للوضع السياسي الإقليمي والدولي أن «منطقتنا تحولت اليوم من قزوين إلى المتوسط، إلى ساحة مواجهة رئيسية مع قوى الإمبريالية العالمية»، ما يتطلب «تعميق أواصر التحالف والتآخي والنضال المشترك (بين شعوبها) على مختلف المستويات لإفشال المخططات الإمبريالية القديمة والجديدة»، مبينة أن هذه المواجهة تتطلب على المستوى المحلي تعزيز الوحدة الوطنية، التي تتطلب بدورها إصلاحاً شاملاً وجذرياً ومحدد الاتجاه.. وهنا مربط الفرس، حيث دخلت الموضوعات إلى لجة الواقع السوري محاولة تفسير أبرز ملامحه من بعض الزوايا الأساسية، وليس من جميعها، وباعتماد لغة الغائب في الدعوة إلى تغييره، وليس بتحميل كل طرف في المعادلة السياسية السورية مسؤوليته في هذا التغيير، ولعل هذا أكثر ما يدعو لطرح الأسئلة ومحاولة الإجابة عليها بصدق وشفافية.
وعلى سبيل المثال، فـ«الإصلاح المطلوب هو حزمة كاملة متكاملة من الإجراءات العميقة التي يجب أن تطال بتأثيرها المجتمع وجهاز الدولة والاقتصاد الوطني من أجل تعزيز خيار المقاومة والحفاظ على السيادة الوطنية»، فمن سيقوم بهذا الإصلاح؟ الحكومة؟ القيادة السياسية ممثلة بحزب البعث وحلفائه الجبهويين؟ القوى الأهلية؟ من؟
ثم، و«الأهم الذي دونه لن يكون لأي إصلاح سياسي معنى، هو الوصول إلى قانون انتخابات جديد عصري يكف يد قوى المال وجهاز الدولة إلاّ بحدود القانون»، و«البلاد بحاجة إلى قانون أحزاب يضمن إنشاء الأحزاب على أساس وطني شامل، وقانون انتخابات نسبي».. فمن الذي سيعي ذلك بداية ليفرضه جدياً لاحقاً؟ وكيف؟ وكل المؤشرات تؤكد أن ممانعي هذا النوع من الإصلاحات الذين تغيروا بنيوياً لن يسمحوا بأي تغيير إيجابي في هذا الإطار، وكل المناخات القائمة داخلياً (النيوليبرالية) وخارجياً (الفوضى الخلاقة – الفوالق المتعددة) تصب في مصلحة ذرائعهم البالية للتملص من هذا الاستحقاق وتمترسهم على موقفهم الذي يزداد رجعية؟.
و«إما استبدال النظام السياسي، وإما تغيير جذري للسياسات الاقتصادية يضمن استقرار النظام السياسي في وجه قوى الرأسمال الكبرى»، و«المنطق والحكمة ومصلحة البلاد تقول بضرورة البحث عن نموذج بديل للتطور الاقتصادي يؤمن أعلى نمو ممكن وأعمق عدالة اجتماعية»... فمن سيقوم بهذا التغيير الجذري الصعب؟ لعل الموضوعات كانت صريحة بالتأكيد في مهام الشيوعيين «إن المهام المطلوبة من الشيوعيين السوريين لكي يستعيدوا دورهم الوظيفي كبيرة وعظيمة، (في إشارة لكل ما سبق) وهم قادرون على ذلك عبر إعادة بناء حزبهم الواحد والموحد والمعترف به من الجماهير الشعبية..» ما يعني أن هذه المهام من وجهة نظر الموضوعات لن يقوى على تحقيقها سوى الشيوعيين وحلفائهم ومن يمثلون شريطة أن ينجزوا وحدتهم التي ما تزال غائمة المصير حتى الآن.. فهل يعني ذلك أن احتمال التغيير ما يزال بعيداً وغائماً بدوره لأن العامل الذاتي لم ينضج بعد؟ ومتى سينضج إذاً؟
هل يعفي الموضوعات كونها «موضوعات» وليست «مهاماً برنامجية» من مغبّة الجواب على هذه الأسئلة؟..
لا شك أن الماركسية- اللينينية هي نظرية للتغيير الثوري للمجتمع، وهي لابد أن تستند إلى تفسير صحيح له لإنجاز مهمتها.. ولاشك أيضاً أن أي خلل في التفسير يبعد أو يضعف إمكانية التغيير، ولكن من الضروري التنبه أن كلتا العمليتين، التفسير والتغيير، متواترتان ومستمرتان، وأن كل تفسير يجب أن تنبثق عنه محاولات تغيير للاستمرار في رصد تطوره وتبدله على الأقل، والحقيقة أن التفسير الذي حفلت به الموضوعات، وإن عابه عدم شموليته وعدم إحاطته بقضايا هامة كالقضيتين الثقافية والبيئية على سبيل المثال، إلا أنه كان عميقاً ودقيقاً في الشؤون التي تناولها، ولكن أين التغيير منه؟ وكم سيتأثر التفسير سلباً في حال استمرار قصوره على قضايا دون أخرى، وفي حال تأخر أو تلكّأ أو غاب التغيير؟
ولقد حفل العقد الأخير، وهو عمر اللجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين السوريين تقريباً، بالكثير الكثير من الأحداث المحلية الجسام، فقد زاد الفساد والنهب بصورة فظيعة وتمركزت الثروة بأيدي قلة من الأثرياء الجدد، وتم انتهاج النيوليبرالية والخصخصة في كل المجالات الحيوية للبلاد، وتم رفع الدعم عن الطاقة والمواد الأساسية، وارتفعت معدلات الفقر والبطالة، وانخفضت مؤشرات الصحة والتعليم ومجمل الخدمات، وتراجع الإنفاق والإنتاج الزراعي والصناعي، وتكاثرت الأوبئة الاجتماعية المختلفة، وتهددت الوحدة الوطنية أكثر من مرة وماتزال، وأصبحت البلاد برمتها أمام أخطار غاية في الاتساع والتشعب.. وكان من يؤمنون بنا، بحركتنا، بسعينا لاستعادة دورنا الوظيفي عبر وحدتنا، يأملون منا أكثر من التفسير واتخاذ المواقف الصحيحة.. وهذا برسم الاجتماع الوطني التاسع..