الافتتاحية: قُبيل المواجهة الحتمية

أحداث الأسابيع الأخيرة كانت ساخنة، وكل المؤشرات تنبئ بازدياد سخونتها مع اقتراب أيلول، شهر التقاطعات الكبرى بين الملفات الأساسية من لبنان إلى إيران مروراً بالعراق.. فأيلول هو شهر إيران في مجلس الأمن لوضعها تحت البند السابع.. وأيلول هو شهر قرار المحكمة الدولية في لبنان.. وأيلول هو شهر ما اصطلح على تسميته انسحاب القوات الأمريكية من العراق، أي إعادة تجميعها لإعادة انتشارها في المنطقة..

كل ذلك يؤكد استنتاجات سابقة حول أن المواجهة في المنطقة قد بدأت، وهي في حالة تصاعد وإن لم تصل بعد إلى ذروتها التي يمكن أن تصلها بسبب أي طارئ بين لحظة وأخرى..

إن دفع الأمور إلى التوتير هو نتيجة طبيعية للأزمة الرأسمالية العظمى التي تعاني الإمبريالية الأمريكية من استحقاقاتها الكبرى، ما يدفعها للهروب إلى الأمام محاولةً تصدير أزمتها للخروج منها أو تأجيلها إلى حين على أحسن تقدير، ما يعكس حجم المأزق والورطة التي تعاني منها.. فاستحقاقات الأزمة الداخلية المتسارعة تدفعها إلى الخارج، ومقاومة الشعوب في الخارج، التي لم تكن في الحسبان، تدفعها إلى مزيد من التخبط وإعادة الحسابات ووضع البدائل الجديدة..

والأمر هكذا فإحداثيات المواجهة تتحدد أكثر فأكثر..

ـ فهي شاملة، وإن كان مركزها منطقتنا من قزوين إلى المتوسط، فهي تمتد اليوم من كوريا إلى فنزويلا بمعنى الكلمة الحرفي، مغطية عملياً كل الكرة الأرضية..

ـ وهي متعددة الأوجه ومركبة، حيث لم يعد يستخدم عنصر واحد من عناصر المواجهة والصراع وحده، بل تتشابك كل العناصر والمكونات بعضها ببعض؛ العسكرية والسياسية والاقتصادية والإعلامية والنفسية..الخ، متناوبةً بشكل مستمر فيما بينها على سلم الأولويات.

ـ كما أنها معقدة، لأن ما يبدو على السطح أحياناً فيها لا يعكس إلاّ الجانب الأقل من اتساع وحجم وخطورة المواجهة.. لأنه إلى جانب الوسائل التقليدية تستخدم الوسائل الجديدة من تقنيات التحكم والتأثير الاجتماعي المستندة إلى فهم حقيقي لمنظومات التناقضات من أجل إعادة خلطها بين الأساسي والثانوي، مستهدفين تعظيم قوتهم التي تضعف وتقزم نقاط قوتنا التي تتعاظم..

إن هذه المعطيات تستدعي التفكير جدياً من جانب كل القوى المستهدفة بالمشروع الأمريكي- الصهيوني، بتطوير المواجهة الذي يعني تأمين الظروف الأمثل لإفشاله ودحره، ما يتطلب أحيانا ًتوقع غير المتوقع دون المغالاة والمبالغة، آخذين بعين الاعتبار أن العدو في وضع لا يحسد عليه، وهو مضطر أكثر من قبل إلى المكر والخداع والتحايل وابتداع أساليب جديدة وجديدة في هذا المجال.. في ظل تراجع إمكاناته الحقيقية وموارده التي تعبر عنها الهزائم المتتالية التي أصيب بها في السنين الماضية.

إن تطوير المواجهة مع العدو يتطلب قبل الوصول إلى ذروتها إجراءات وسلوكاً استباقياً يسد عليه كل الثغرات التي يعتبرها نقاط ضعف لدى خصومه، ويسعى بشكل طبيعي إلى النفاذ منها من أجل تعظيمها في اللحظة الحاسمة وتحويلها إلى نقاط استناد أساسية له، تدعم خطوط هجومه الرئيسية..

ـ فهو سيسعى إلى شل قدرات أجهزة الدولة الأساسية من الداخل عبر اختراقات كوّنها سابقاً ويمكن أن يوسّعها لاحقاً.. وليس سراً أنه سيعتمد على مراكز الفساد الكبرى كنقطة اختراق أساسية يستند إليها.

ـ كما أنه سيسعى إلى تفجير «الخلايا النائمة» في المجتمع، والتي تكونت تاريخياً كنقاط توتر، إن كان بسبب توسع الفقر والبطالة اللذين زادا أعداد المهمشين القابلين للتحول إلى حطب في موقد الانفجارات الداخلية، أو كان بسبب تراجع الحياة السياسية والانتعاش النسبي للظواهر المرتبطة بمكونات ما قبل الدولة الوطنية من طائفية وعشائرية، أو كان بسبب صعود مؤقت لقوى تكفيرية لاقت ما يلزم من جانبه من دعم لوجستي..

أي بكلام آخر، فإن العدو سيسعى إلى تنشيط وتحفيز الفوالق الموجودة في المجتمع موضوعياً بشكلها الجنيني، والتي نمت بسبب سياسات اقتصادية واجتماعية قصيرة النظر..

إن رصد نقاط الضعف التي سيحاول العدو النفاذ منها ومحاصرتها مسبقاً بإجراءات اقتصادية واجتماعية وسياسية، وليس إدارية فقط، كما جرى في قضية المنقبات، هو الكفيل بإجهاض مخططاته، الأمر الذي يضمن فك الصواعق قبل التفجير، وعدم تركها للظروف والتقادير..

إذاً، المطلوب هو إجراءات عميقة فعالة عشية المواجهة القصوى التي تسرع الخطا إلى المنطقة، أو على الأقل إجراءات تضمن منذ الآن أن تستطيع قوى المجتمع الحية القيام بدورها حين ذلك على أكمل وجه، ما سيساهم في منع العدو من تنفيذ مخططاته، وفي ذلك ضمانة لكرامة الوطن والمواطن..