أنا الشعب!!
تطالعنا نشراتُ الأخبارِ ومحطات التلفاز كلَّ يومٍ بمحللين أو نشطاء سياسيين، يعلنون بثقةٍ تامة: «الشعب قال كلمته» أو «هذا خيار الشعب» «الشعب يرفض» «وعي الشعب السوري أسقط المؤامرة».. مستغلين بذلك الكم الكبيرمن الأشخاص الذين ُيعبر عنهم بهذه المفردة، وصعوبة الملاحقة والتتبع الجنائي للتأكد تماماً عن أي شعبٍ هم تماماً يتحدثون. ليتم بذلك إلصاق ما هب ودب من الأحكام والقيم والقرارات والتصريحات بهذا الشخص المدعو «شعب»، ويزور توقيعه أسفل العديد من البيانات والبلاغات. ومن المنطلق نفسه يسهل على البعض اتهام من يحمل رأياً مخالفاً بأنه «خان إرادة الشعب»، هم يتحدثون باسم الشعب كما لو أن هذا الأخير أفضى لهم بسرٍ وخوّلهم أن يعلنوه على الملأ.
تتحول لفظة «شعب» أحياناً إلى حكم قيمة، فيكافأ البعض ويثابون بتسميتهم شعباً، بينما يحرم آخرون حتى من حق كهذا، ليتركوا يتساءلون «من نحن إذاً ؟!» أو توضع مفردة «شعبوي» كنقيض لمفردة «نخبوي»، حين يراد من ذلك التعبير عن الفوضى والعشوائية أو التخلف!
في حمى الفوضى والغموض اللذين يكتنفان توظيف لفظ الشعب، واستخدامه كصفةٍ تارةً أو فاعلاً تارة أخرى. يتبادر للبعض سؤالٌ معقدٌ: من هو الشعب حقاً؟ وكيف يمكن التأكد من أن وسائل الإعلام تعبر حقاً عن إرادة الشعب ومشكلاته، وتنقل رسالته بأمانة.
وهنا يمكن التفريق بين مفاهيم «الشعب»و «الرأي العام» و«الحشد»، فالرأي العام مصطلح مرتبط بصورة أو بأخرى بمفهوم الديمقراطية، وهو نوع من الكبح والتلطيف الأمريكي لمفهوم الشعب، من خلال النظر إلى المواطنين والشعوب كتجمع من «المستهلكين» أو«العملاء» للشركات أو «كأصوات» للناخبين في صناديق الاقتراع، ويظهر ارتباط مفهوم الرأي العام هنا بصورة أوضح بوسائل الإعلام التي تهدف إلى التأثير فيه وتوجيهه، أو تعمل على تبني الاتجاه العام السائد وتدعيمه، وهو وإن كان يتقاطع مع مفهوم الشعب إلا أن هناك اختلافاً جوهرياً: فالرأي العام متقلب ومتهور، جامد، يتأثر بالظروف والأحداث الاستثنائية، ويمارس آليات دفاعية تماماً كالإنسان مثل التبرير والإسقاط والتماثل، وهنا يأتي آثر وسائل الإعلام التي تقدم نماذج من الشخصيات أو الأحداث التي تساعده في تقديم تبريرات لمواقفه، أو عرض أنماط من السلوك يسقط عليها مشاعره ويتحد معها.
ومفهوم الحشد من جهة أخرى مختلف أيضاً، فهو تجمع لعددٍ كبيرٍ من الأفراد، قد يكون متجانساً أولا يكون. يطلق انتماء الفرد إلى الحشد اللاشعور الجمعي لديه، ويجعله يتأثر بالأهازيج والأعلام والرايات والأغاني والشعارات، ليعيش بذلك حالةً خاصة من الانفعال والاتحاد مع الجماعة. وصور الحشود غالباً ما كانت توظف إعلامياً كتصويرٍ حي للشعب، وهي في حالات كثيرة عبرت حقاً عن الشعب أو جزء منه على أقل تقدير، إلا أنه وخارج كادر الصورة التي تنقلها كاميرا التلفزيون شرائحٌ أخرى من الشعب لم تصور.
يتجاوز مفهوم الشعب مفهومي الرأي العام والحشد إلى ما هو أبعد، فالشعب لا يكتفي بإبداء «الرأي»، وإنما يمتلك قدرة أسطورية في تحويل رأيه واقعاً بالفعل، ليتجاوز بذلك حالات التذبذب والتقلب ومحاولات تلاعب وسائل الإعلام به وتوجيهه، كما أنه يتجاوز الانفعال الآني واللحظي في حالة الحشد إلى ما هو أعمق وأكثر اتزاناً.
يندمج البعد التاريخي بالجغرافي، والوطني بالمعاش،الماضي بالمستقبل، ليخلق كلاً واحدا، ليخلق شعباًً. وعندما تتبلور تجربة الشعب ووعيه، يمسي واضحاً، مباشراً، صادماً، بحيث لا يمكن تجاهله، أو البحث عن تعريفاته، كما يمسي من الصعوبة بمكان انتحال شخصيته والحديث باسمه. عندها سيقف أولئك الذين يصدرون الآن الأحكام باسمه، مذهولين يتساءلون «أين ذهب الشعب؟؟! »