قوى الفساد الكبير إذ تلعب دور «المعارضة»..

تلجأ الموالاة المتطرفة إلى تبرير فسادها الصغير والكبير، وذلك من خلال ترويج فكرة مفادها أن الفساد ظاهرة موضوعية موجودة في أية دولة في العالم، ولا يمكن التخلص منها، وأن السعي للقضاء عليها نهائياً هو ضرب من اليوتيبيا والخيال، أما الوقوف في موقع المعارضة للفساد فهو نوع من التشدّق ومحاولة كسب للنقاط وخلط للأوراق، إذ أن أية معارضة تتسلم المسؤوليات ستمارس الفساد المزّمن  ذاته على مرّ العصور ..

يشكّل تبرير ظاهرة الفساد بهذه الطريقة مدخلاً لتبرير وممارسة القمع في المجتمع، فلا معنى لأي صوت معارض طالما أنه مرشّح لإعادة إنتاج الفساد من جديد، وتتم معاقبة الشعب الذي يبدي رغبة في «المشاركة» في  السلطة، لأن من يرغب في مشاركة السلطة فهو وفقاً للمنطق السابق يرغب في مشاركتها فسادها لاغير،  وعلى هذا الأساس تمسي صيحات الناس ضد الفساد ضرباً من الهرطقة والكفر والفجور بنظرهم..

ولعل أبسط ردّ على هذا المنطق المسطّح يقول: صحيح أن كل الدول في العالم تعاني من الفساد بشكّل أو بآخر، إلا أن الكثير من الدول في العالم في المقابل لديها من الحريّات السياسية والديمقراطية أكثر مما تمتلكه بلادنا، لذا فإن قدرتها على كشف الفساد والإضاءة عليه ومن ثم معالجته أكبر مما لدينا، لأن قدرة الجماهير على التدخّل لردع جهاز الدولة عن ممارسة الفساد أعلى، وهذا ما يفسر أن أكثر البلدان رأسماليةً وتوحشاً تضطرّ إلى تقديم تنازلات سياسية واقتصادية- اجتماعية لشعوبها تحت ضغط الأشكال الاحتجاجية المختلفة، لذا فإنها تلجأ إلى ممارسة النهب خارج بلدانها أكثر من الداخل وفقاً لميزان قوى محدد داخلي وخارجي. أما عند الوقوف على جذر ظاهرة الفساد، ومناقشته بشكل عميق، تظهر لنا علاقة الارتباط العضوي بين الفساد وأي جهاز دولة، فهذا الجهاز «فاسد بطبيعته» حسب الأدبيات الماركسية الكلاسيكية، وظيفته تنظيم الصراع الطبقي، ومنع الناس من أن تأكل بعضها البعض، وهو يحمي نمط توزيع ثروة محدد، ويستفيد من موقعه هذا، ليظهر فوق المجتمع والطبقات وينفصل عنها في نهاية المطاف. وهذه الصفات لم تلغ الحاجة إلى جهاز الدولة حتى يومنا هذا، فطالما أن المجتمع البشري المعاصر ينقسم إلى طبقات فلا تزال الحاجة إلى وجود جهاز الدولة قائمة وموجودة، الأمر الذي فرض على الشعوب، من خلال تجربتها وخبرتها التاريخية، أن تسعى دائماً إلى لجم وكبح هذا الجهاز عن ميله الطبيعي نحو الفساد. وقد أثمر نضال الشعوب ضد هذا الميل على مر التاريخ مجموعةً من الصيغ المختلفة للحريات السياسية والتمثيل السياسي، كي تستمر حالة الحفاظ على الحقوق التي يميل جهاز الدولة إلى التسلط عليها..

وعند العودة إلى سورية ومعركتها الحالية التي تحمل استحقاقات مركبة، وطنية واقتصادية- اجتماعية وديمقراطية، نخلص إلى نتيجة مفادها أن قوى الفساد الكبير تسعى إلى تثبيت ميل جهاز الدولة باتجاه  الفساد، وقمع أي دور مناهض لهذا الفساد، وهذا يتم تحت ذريعة أن الفساد ظاهرة ملازمة للإنسان والمجتمع أينما وجد، ويُرد إلى عوامل ثقافية أو سايكولوجية بحتة!!

وتشتدّ في هذه الأيام المعركة حول «طبيعة الفساد» في سورية من خلال لجوء بعض قوى الفساد في النظام إلى لعب دور «المعارضة المظلومة»، عبر وسائل الإعلام الناطقة باسمها، وذلك بمواجهة قوى المعارضة التي شاركت في الحكومة الحالية على أساس البيان الوزاري الحالي، والذي تتلخص مفرداته الأساسية ببنود التوجه الاقتصادي الجديد والمصالحة الوطنية. إذ ثبت أن هذين البندين يتعارضان مع مساعي الفساد الكبير في تأبيد النهب الاقتصادي واستمراره. فأية مصالحة يمكن أن تنجز دون محاسبة المسؤولين عن تردي الواقع الاقتصادي والسياسي وعمن أراقوا دماء المدنيين في سورية؟ وأي نموذج اقتصادي جديد، يقوم على أعلى نمو اقتصادي وأوسع عدالة اجتماعية، ويعتمد التوجه شرقاً، دون أن يلحق الضرر بمصالح الفساد الكبير وأصحاب رؤوس الأموال المستفيدين من النموذج الليبرالي السابق؟؟

والحقيقة أن هذين البندين يقضان مضجع الفساد الكبير باستمرار، الأمر الذي ألجأ الأخير إلى ممارسة دور المعارضة بشكل بغيض، ولكنه دور مضحك في الوقت نفسه. كأن ترى صحفاً وأقنية إعلامية يمتلكها حيتان المال في سورية باتت تنطق باسم المنهوبين والفقراء الذين أُفقِروا على يد هؤلاء الحيتان، لا أحد غيرهم. وهذا الـ«نضال» لا يهدف بالطبع إلى إلغاء النهب، أو بناء الاشتراكية، بل يهدف إلى إثبات أن لافرق بين وزير ووزير إلا بالتقوى والإخلاص لقوى الفساد!!

ولم يكن يوماً الدفاع عن حقوق المظلومين حكراً على أحد، ولكن لا يحق لمن ينهب الشعب ويقمعه أن يمارس دور المدافع عن حقوقه. فقد بات مفضوحاً، على سبيل المثال، دور قوى الفساد في إعاقة جهود المصالحة الوطنية، عبر إراقة الدماء، وإثارة النعرات الطائفية، وتخويف الناس من التغيير الحقيقي، وعرقلة التوجهات الاقتصادية الجديدة والخروج الآمن من الأزمة، والمساومة على مواقف سورية الوطنية، والقائمة تطول.. ثم تعمد هذه القوى في المحصلة، من خلال تلك الممارسات، إلى «تعجيز» القوى الوطنية النظيفة في الحكومة، المعارضة والموالية، عبر اجتزاء مهامها من مشهد الأزمة ككل.. والحقيقة أن هذه المساعي، بما تلاقيه من فشل، تعكس عجز تلك القوى وتخبطها ومدى عزلتها عن الجماهير، وفقدها لأدوات السيطرة، والسبب الأبرز في ذلك هو أنه ما من أحد اليوم في ظل تفجر الأزمة يستطيع الاختباء خلف إصبعه. والناس لم تعد تستمع إلى أحد، بل أصبحت تنظر إلى أفعاله فحسب، وعندما لم تنطلِ الوعود التي قطعتها تلك القوى على الناس في بداية تفجّر الأزمة، فحتماً لن تنطليِ أحابيلهم اليوم على أحد بعد ظهور الوجه الوحشي لتلك القوى على حقيقته، فقد تصاعدت مستويات النهب والفساد في ظل الأزمة، ولعبوا دور تجّار الأزمات بامتياز..

إن المهام الملحّة المرتبطة بالخروج الآمن من الأزمة، كالمصالحة الوطنية والتوجه الاقتصادي الجديد، لن تُنجز إلا ضمن اعتماد منظومة الحل السياسي الشامل الذي يتحمل الجميع المسؤولية عن تأخيره، في المعارضة المتطرفة والموالاة المتطرفة على حد سواء، ولن تنجز هذه المهام على مبدأ «إذهب أنت وربك فقاتلا..» التي يراد منها إعاقة الحل السياسي وعرقلته، وتشويه سمعته..