من الحسم العسكري إلى الفوضى الخلاقة (مخيَّم اليرموك نموذجاً)

لا يزال الواقع في سورية يثبت يوماً بعد يوم أن قوة السلاح فاقدة للقدرة على إيجاد مخرج آمن من مستنقعٍ آسن يتقاتل المهمَّشون فيه في حربٍ لا مصلحة فيها إلا للفساد «الموالي والمعارض». وفي الحرب كل الوسائلِ متاحة، خصوصاً إن كانت تؤمِّن إرباكاَ لقدرة الخصمِ المُحارِب على الصمود، هذا ما يُسمّى في الأدبيات السياسية بمبدأ ميكيافيللي «الغاية تُبرر الوسيلة»، المبدأ الذي دفعت ثمنه في الأزمة السورية مناطقٌ عدة لم يكن مخيَّم «اليرموك» أولها ..

بين الحسم والتصعيد:

رفعَ طرفا النزاع في سورية لواءَ «الحسم العسكري» منذ أن أجهزا على الحراك الشعبي السلمي، وأثقلوا البلاد بحرب لا طاقة لها على تحمُّل عواقبها، وهلَّل كل طرفٍ منهم في الوقتِ عينه، لقرب موعد الانتصار النهائي على الآخر، فكان خبرُ «تحريرٍ» هنا أو «تطهيرٍ» هناك مادة دسمة تتلقاها وسائل الاعلام بِشره، وتُشبعها بتحليلاتٍ تُعزِّز وهم الحسم في الوعي الجمعي للشعب السوري المُنقسم على أسسٍ وهمية ما بين «موالٍ ومعارض». أدرك دعاة الحسم، في وقتٍ متأخر وعبر التجربة العمليَّة، استحالة تحقيق النصر المنشود بقوة السلاح، فالحسمُ العسكري الذي يفترض قضاء أحد طرفي النزاع على الآخر عسكرياً لم يعد ممكناً. فغيّرت المعارضة المسلَّحة شعاراتها من جراء ذلك، وحلَّ «التصعيد العسكري» مكان «النصرِ العسكري» المنتهية صلاحيته، وكان ذلك جلياً، حين عمدت قوى التسلُّح في «المعارضة» إلى اتخاذ «التصعيد العسكري» عنواناً لما سمته «معركة دمشق الثانية».

في السياسة، إن كان هدفُ الحسم إلغاء الآخر، فإنَّ التصعيد العسكري في جوهرهِ هو عملية حرق فعلية لأية منطقة قد تربك الخصم، سياسياً وعسكرياً، فتشلُّ قدرتهُ على مقاومة ما تخلِّفه المواجهة على الصُّعد كافة من جهة، وتُقلل من تعزيزات موقعه في التفاوضات التي تُرافِق الحروب من جهةٍ أخرى. إسقاطاً على واقع الأزمة السورية، يُصارِع الطرفان المتحاربان الزمنَ في تحصيل ما يُمكن تحصيله، عبر التصعيد، من أوراقِ ضغطٍ لازمة في طاولة الحوار التي نضجت ظروفها الموضوعية تصاعدياً منذ تبيان استحالة التدخل الخارجي في سورية. وقد هيأ خيار التصعيد العسكري الأرضية لحالةٍ من الفوضى الخلاقة في نسيج المجتمع السوري، فكانت في المحصلة نتائج التَّصعيد هذا ليست بالبعيدة عن الهدفِ الأمريكي إزاء منطقتنا، والمتمثل في إضعاف الدور الإقليمي للدولة السورية.

«اليرموك» ضحية التصعيد:

منذ بداية الأحداث، اتجهت الأنظار كثيراً نحو المخيمات الفلسطينية في سورية، البعض حاول استخدامها كحطبٍ إضافي يؤجج سعير الاقتتال أكثر، والبعض الآخر عوَّل على بقاء هذه المخيمات آمنةً خلال الصراع في سورية. في المحصلة لم تستطع المخيمات أن تبقى خارج دائرة العنف، فمن حيثُ خصوصيتها، تصلح كورقة ضغط سياسي تمارسه المعارضة المسلَّحة ضد النظام السوري الذي لا يستطيع تخطي الحدود المرسومة شعبياً فيما يخص الموقف المبدئي من القضية الوطنية ..

في الحقيقة، لم تكن الأسباب التي دفعت بالمعارضة المسلّحة للهجوم على مخيَّم «اليرموك» عسكريةً فحسب، فقد كشفت تداعيات ما جرى فيه أن المخيم لم يكن خارج مساحة الاستثمار السياسي والاعلامي. ففي عملية اقتحام المخيم برز عاملا ضغط مارسهما المقتحمون على النظام، تجلَّى العامل الأول في تهجير أبناء المخيم، البالغ عدد قاطنيه من الفلسطينيين حوالي 280 ألفاً (الإحصاء السوري 2011)، يُضاف إليهم السكّان السوريون والعرب، وبالتالي تكونُ ورقة التهجير هذه ثقلاً إضافياً على كاهل الدولة السورية، أما العامل الثاني فيتجسَّد في صعوبة الرد العسكري داخل المخيم، لأن الإقدام على هكذا خطوة سيكون لها تبعاتها السياسية والاعلامية، ويساهم ذلك في التشكيك في مقولة الممانعة التي لا طاقة للنظام على تخطيها. وبالواقع، لم تكتفِ المعارضة المسلّحة بهاتين الورقتين، فما لبثت أن بدأت بعض وسائل الاعلام تُعلن عن انسحاب للمسلحين من المخيم «حفاظاً على أمان أهلنا الفلسطينيين» كما قالوا، فكان الاستثمارُ الاعلامي واضحاً، يعلن ما مفادهُ: «النظام ضرب المخيَّم، ونحن حميناه بانسحابنا»، علماً أن مساحة الانسحاب الحقيقية لم تتجاوز ثلث الشارع الرئيسي للمخيم!

مما سبق يبدو جلياً، أن أحداث «اليرموك» لم تكن إلا فصلاً من فصول «التصعيد»، هدفه الرئيسي كسب ما يُمكن كسبه من خلخلة في صفوف الخصم، ومحاولةً لتلميع صورةٍ لم تزل تكشف مجريات الأزمة عن مساوئها. وهنا يتبين زيف المزاعم حول قدرة عسكرية عالية أثبتها هذا الطرف أو ذاك في السيطرة على مناطق جديدة، فمن يرى الأمور ضمن حركتها الحقيقية، يدرك أن كلَّ محاولة تصعيدية آتية لن يكون هدفها سوى الحصول على أكبر عدد من التحصينات لملاقاة المتغير الحقيقي، وهو حتمية التوجه من صراعِ الرصاص نحو صراع البرامج السياسية.