صفحات من تاريخ الحركة الثورية في الجولان السليب
جولان.. يا عبق الثورة، يا أرض المقاومة الوطنية ضد كل احتلال وتعسفٍ حاول قضمك من جسد سورية الأم.. اثنان وتسعون عاماً لم تهدئ هضبة الجولان عن زئير الثورة والمقاومة، أربعة وأربعون عاماً وذرات ترابك الحبيب لم تحتضن الحرية، مكبلاً في زنزانة صهيونية مقيتة، جولاني وأنت من صنعت الحرية بدماء أبنائك وبناتك، ووضعت بصمتك في كل محطة من محطات تاريخ سورية الحديث بدءاً بمقاومة الاستعمار الفرنسي ومقارعة الديكتاتوريات العسكرية والوقوف في وجه الإقطاع والبرجوازية، وليس انتهاءً بأربعة عقود ونيف من المقاومة الوطنية ضد الاحتلال الصهيوني الأسود
النضال ضد الاستعمار الفرنسي
خاض أهلنا في الجولان مقاومة ضارية ضد كل أشكال الاحتلال والاستعمار والتهجير، وكانت أكثر محطات المقاومة إضاءةً أوائل القرن الماضي في مقاومة الاستعمار الفرنسي، حيث شهدت أراضي الجولان عدة ثورات وانتفاضات منذ تشرين الأول 1919 عندما هاجمت القوات الفرنسية قرية الخصاص وقصفت قرى الجولان بالمدفعية، واستمرت المعارك حتى نهاية 1919 بانسحاب القوات الفرنسية الغازية مهزومة. وفي 23 حزيران 1922، أثناء زيارة الجنرال غورو إلى القنيطرة، قام مجموعة من ثوار الجولان يتقدمهم الثائر الكبير أحمد مريود بمحاولة اغتياله قرب قرية خان أرنبة، فقتل المترجم الكولونيل باربيت ونجا غورو، وعلى خلفية الحادثة سيرت قوات الاحتلال الفرنسية حملة انتقامية ضد أهالي الجولان بقيادة الكولونيل ريوكرو، وارتكبت الحملة أبشع الفظائع بحق الأهالي في جباتا الخشب وطرنجة ولوفانيا وجباتا الزيت والمنشية وتل الشيحة وتل الأحمر. وفي منتصف عام 1925 تعرضت قرية مجدل شمس لقصف بالطائرات والمدافع، فأرسل قائد الثورة السورية الكبرى سلطان باشا الأطرش شقيقه الأصغر زيد الأطرش على رأس حملة من جبل العرب، وتم رد الحملة الفرنسية وهزيمتها هزيمة نكراء بعد أسبوع من المواجهات خسر الثوار خلالها 200 شهيد، بينهم القائد فؤاد سليم، كما خسر الفرنسيون 500 جندي وضابط بين قتيل وجريح..
في أواخر كانون الثاني 1926، اندلعت معركة مجدل شمس الثانية في موقع السكرة بجانب القرية، وانسحبت القوات الفرنسية مهزومة لتعاود مهاجمة مجدل شمس بالطائرات والمدفعية بثلاثة جيوش تحت أمرة الجنرال مارتان، وكانت تضم ستة ألوية رماة وثماني كوكبات من الخيالة وعدة سرايا مدفعية متوسطة وثقيلة وعدة مفارز من المغاوير المدربين على حرب الجبال وأسراب من الطائرات، حيث قدرت القوة الفرنسية المهاجمة بعدة آلاف من الجنود ، فخرج ثوار الجولان لملاقاة المحتلين في قرية خان أرنبة وأجبروهم على التراجع باتجاه القنيطرة. وفي الثاني من نيسان 1926 اشتبك الفريقان بالسلاح الأبيض، وتلاصقوا جسداً بجسد، وقد دافعت مجدل شمس عن نفسها لمدة 12 ساعة قبل أن تسقط بأيدي الفرنسيين. وفي نفس العام سقطت جباتا الخشب عندما اقتحمها الفرنسيون في 10 حزيران 1926 بعد مقاومة ضارية خلفت 41 شهيداً من أهالي الجولان بينهم الثائر الكبير أحمد مريود وشقيقه..
كما كان لأهالي الجولان محطات نضالية رائعة بعد ذلك في مقاومة الاستعمار الفرنسي أثناء إضرابات ومظاهرات 1936 و1945 ومساهمة ملحوظة في حرب فلسطين 1948..
نشوء منظمة الحزب الشيوعي في الجولان
انتشرت الأفكار الشيوعية في الجولان منذ إعلان تأسيس الحزب الشيوعي السوري عام 1924 تقريباً، فالمعلومات التي أفاد بها بعض الشيوعيين القدامى الجولانيين تبين أنه تم تنظيمهم في صفوف الحزب منذ عام 1930 ـ 1936. من الرفاق القدامى الذين عرفوا بشكل جيد بين أوساط الجماهير، الرفيق حكمت اسطنبولي «أبو الحكم»، وقد استشهد عدد من الرفاق الشيوعيين الجولانيين في حرب فلسطين عام 1948 من بينهم الرفيق عبد المجيد طش، الذي وجدت في جيبه هوية الحزب عند استشهاده على أرض المعركة في فلسطين، والرفيق الشهيد صلاح امجوق الذي قام ببطولة معروفة أثناء احتلال مستعمرة كعوش في فلسطين واستشهد فيها.
مع مطلع الخمسينيات عمل بعض المعلمين والمدرسين الشيوعيين في القنيطرة وبعض قراها. فقد عمل المعلم متري الهامس في قرية جبا في أعوام 1952-1953 والرفيق عبد الله دياب، الذي أصبح مديراً لمدرسة التجهيز الوحيدة في الجولان، والذي نقل من دمشق إلى القنيطرة بسبب التزامه بالحزب الشيوعي ومن خلال احتكاك هؤلاء المدرسين بأهل الجولان انتشر الفكر الشيوعي بشكل أوسع..
يمكن اعتبار أواخر عام 1954 مرحلة إعادة الحياة للتنظيم الشيوعي في الجولان، فقد حاولت مجموعة من الشبان إيجاد صلة بالحزب الشيوعي، حيث أرسلت أحد أعضائها إلى دمشق للاتصال بالحزب وقد تم التواصل فعلاً بعد أن تأكد الحزب من أن هذه المجموعة تبحث فعلاً عن الحزب، وتريد الانضمام إلى صفوفه، وأرسل الحزب الرفيق مراد يوسف، أحد أبناء القنيطرة والمقيم في دمشق، وعقد معهم الاجتماع الأول، وضم الاجتماع التأسيسي عدداً من الرفاق منهم مفيد وعبد المهدي وفكرت، وبعد زمن قصير انضم الرفيق فخري وأصبحت هذه الخلية الشيوعية مؤلفة من أربعة رفاق أعمارهم تتراوح بين الخامسة عشرة والسابعة عشرة، وبدأ نشاط الفرقة في المجال السياسي والفكري والتنظيمي في ظل ظروف عائلية وعشائرية ودينية متزمتة، وبعد افتتاح المدارس في عام 1954 ازداد نشاط الفرقة في أوساط الطلبة وقد ساعدهم في ذلك خدمات الرفيق عبد الله دياب لجماهير الطلبة والتي كان من أهمها السماح لعدد كبير من الطلاب الفقراء بالحضور كمستمعين في صفوف الثانوية والإعدادية، وعندما ترسخت جذور الفرقة بدأت بالنضال من أجل تبني المطالب الجماهيرية، وقامت بجمع التواقيع على نداء السلم العالمي (نداء استوكهولم) وقد كان للشيوعيين في الجولان عدة محطات نضالية منها:
1- تقدمت الفرقة بعريضة وقّع عليها /450/ من أهالي مدينة القنيطرة، تطالب بترخيص الكهرباء، وفعلاً تم التخفيض بمقدار /20/ ق.س للكيلو واط. وأدى النجاح في هذا المطلب إلى تقوية ثقة أهالي الجولان بهؤلاء الشباب الشيوعيين، و تم إدخال جريدة (النور) جريدة الحزب الشيوعي السوري بعشرة أعداد لأول مرة حتى ارتفع عدد مبيعاتها إلى /150/ عدداً خلال سنة واحدة، وأصبحت من أهم الجرائد الجماهيرية في المنطقة. كما نشرت المنظمة في جريدة النور عدداً من القصائد المترجمة عن اللغة الشركسية كما تم إدخال جريدة الأخبار اللبنانية الأسبوعية والنداء وغيرها من الصحف والمجلات التقدمية والشيوعية.
2- في عام 1955 تمكنت المنظمة من منع هدم البيوت في حي العرب عند مدخل القنيطرة من ناحية دمشق، وذلك بإرسال عريضة إلى رئاسة الجمهورية والبرلمان ورئاسة الوزراء ووزارة الداخلية عليها مئات التواقيع المطالبة بوقف الهدم ومحاسبة المسؤولين عن ذلك التصرف، وقد أوقف الهدم ونقل قائمقام القضاء..
3- انخرط جميع الرفاق والأصدقاء في المقاومة الشعبية، وتدربوا على استعمال السلاح وكانوا يخرجون في دوريات لحراسة الجسور والأماكن السهلة التي يمكن للعدو أن يستخدمها للإنزال المظلي.
4- في عام 1957 عندما حاولت أمريكا جر البلدان العربية إلى مشروع ايزنهاور، أصدرت المنظمة منشوراً مطبوعاً على الآلة الكاتبة ضد هذا المشروع، وفضحت مؤامرات أمريكا والدول السائرة في ركابها، وهو أول بيان سياسي يصدر في تاريخ الجولان وعاصمته القنيطرة، كما علقت يافطات تحيي تحالف العمال والفلاحين في نضالهم ضد التدخلات الاستعمارية الأمريكية، وضد المؤامرات الرجعية والضغوط على سورية. وأرسلت المنظمة برقية عليها عشرات التواقيع ضد مبدأ ايزنهاور وقد ساهم في جمع التواقيع عليها الرفيق حكمت اسطنبولي.
وقرر الرفاق في عام 1957 الاحتفال بعيد الجلاء بأسلوب جديد، فقد تم حفر عبارة «عيد الجلاء» على قمة أبو الندى، حيث ملئت الحفرة بالمازوت وأشعلت وارتفعت ألسنة اللهب في السماء عدة أمتار واستقبل الأهالي ذلك بالابتهاج والسرور.
5- تمكن التنظيم وبمساعدة المركز من الدخول في العديد من القرى، وتكوين منظمات في القطاع الشمالي، وقرى الصرمان ومدارية والمومسية وغيرها.
6- في عام 1958 قاد التنظيم تظاهرة قام بها عمال الهندسة وجماهير القنيطرة ابتهاجاً بتحطيم حلف بغداد، وقبر النظام الملكي في العراق الشقيق، حيث رددت الجماهير الشعارات الوطنية والهتافات الديمقراطية والأهازيج.
ومع بداية عام 1959 أثناء الحملة التي شنت ضد الشيوعيين أيام الوحدة، اعتقل معظم الرفاق في المنظمة، واستمر اعتقالهم حتى عهد الانفصال حيث تم إطلاق سراح الرفاق وعادت الصلة مع المنظمة عن طريق الرفيق دانيال نعمة، ونتيجة صمود الرفاق في السجون أصبحت جماهيرية المنظمة كبيرة للغاية، مما دفع الكثير من الشباب والشابات للانتساب للحزب، وعادت المنظمة لممارسة النشاط الجماهيري في الجولان فنظمت عريضة تطالب بالسماح بعودة الرفيق خالد بكداش إلى الوطن، وقع عليها المئات من القنيطرة وقراها، وحاولت السلطات إرهاب الرفاق واستدعت الرفيقين فكرت رجب ورفعت للتحقيق معهما بحجة أن التواقيع مزورة.. كما أرسلت المنظمة وفداً إلى رئاسة الوزراء بهذا الخصوص وأرسلت برقية باسم نساء الجولان للغاية نفسها..
وشاركت المنظمة في المظاهرة الكبيرة التي جرت في دمشق تأييداً للثورة الكوبية، وقامت بتأسيس الجمعيات الفلاحية التعاونية في قرى الجولان مثل المومسية، وأنشأت جمعية تعاونية لصيادي الأسماك، وكل ذلك أعطى وزناً لمنظمة الحزب الشيوعي في الجولان بين أوساط العمال والفلاحين والطلاب والمعلمين ودخل في التنظيم رفاق من معظم القرى والأحياء..
الصراع الطويل ضد الصهيونية
شهد الجولان صراعاً طويلاً ضد الصهيونية لاعتبارات عدة، منها موقع الجولان الاستراتيجي المطل على فلسطين وبالتالي خط المواجهة الأول ضد الكيان الصهيوني، حيث خاض أهل الجولان من المدنيين وإلى جانبهم الجيش الوطني المرابط هناك منذ حرب 1948 معركة عين فيت 1955 التي استشهد فيها الرفيق الملازم أول ممدوح قره جولي، ومعركة تل العزيزيات 1960، لكن الفاجعة الكبرى كانت في نكسة 5 حزيران 1967، والتي فقدنا جولاننا العزيز يومها عندما احتلته القوات الصهيونية بدعم كامل من الامبريالية الأمريكية، ذاك اليوم الأسود لم يمر دون تضحيات وصمود من جانب الجيش والأهالي في وجه الغزاة، ومنها نذكر ما سطره الضباط والجنود الشيوعيون من بطولات في المقاومة والصمود المشرف كمعركة قرية الجليبيني التي استشهد فيها الرفيق مصطفى بدوي الذي كان برتبة مرشح وقائد فصيلة، فأثناء الهجوم الغادر للعدو الإسرائيلي، طُلب منه الانسحاب من موقعه لكنه رفض الأمر وقد استبسلت مجموعته الباقية معه وهم أربعة جنود، وصمدت لمدة أربعة أيام استطاعت خلالها تدمير رتل من الدبابات قبل أن تلتف عليه مجموعة صهيونية، فاستشهد مع مجموعته المرابطة في القرية. كذلك شهدت هضبة الجولان معارك حربي تشرين والاستنزاف 1973و1974 التي تم فيها تحرير مدينة القنيطرة وبعض القرى..
وشهد الجولان في الثمانينيات حركة جماهيرية كبيرة أهم مراحلها ما عرف بالإضراب الكبير أو معركة الهويات، عندما حاولت سلطات الكيان الصهيوني فرض الهوية الإسرائيلية على أهالي الجولان المحتل، و بتاريخ 14/2/1982، دخلت قوات الاحتلال المنازل مدججة بالأسلحة و قنابل الغاز و العصي، وأوسعت المواطنين ضربا و تنكيلا، واعتقلت منذ اللحظة الأولى /47 / شيخا و شابا، و حوالي /150/ شخصا زج بهم في معتقل مدرسة مسعدة، وسقط عشرات الجرحى و فرض الصهاينة منع تجول و حطموا الأبواب و النوافذ، و أتلفوا أثاث المدارس، ومنعوا حتى المواشي من الخروج إلى المراعي. الأمر الذي أدى إلى موت القطعان وتفشي الأمراض في قطعان أخرى، وقطعوا مياه الشرب، وأجبروا السكان على شرب مياه البرك و المستنقعات، مما أدى إلى إصابة مئات الأطفال بمختلف الأمراض. وقد أحرق الإسرائيليون أيضا مزارع الأبقار، ودام الحصار الإسرائيلي /52/ يوماً و الإضراب الشامل سبعة أشهر. لقد سطر الأهل، خلال ما بات يعرف بـ«معركة الهويات»، حين كنس أهالي الجولان الهويات الإسرائيلية بمكانس البيوت و داسوها على مرأى من جنود الاحتلال، أروع فصول المقاومة ضد الاحتلال، و أسقطوا مراهناته و إرهابه في مزبلة التاريخ أمام صرخة المقاومين التي تقول: في تاريخ 14-2-1982 «لو اعتقلتمونا جميعا، و سننتم ألف قانون فلن تستطيعوا تغيير هويتنا السورية»، «أقسمنا بوطننا ما نستلم الهوية»، «بالروح بالدم نفديك يا جولان»، «المنية ولا الهوية»، وتم إنشاء «حركة المقاومة السرية» في عام /1983/، التي قامت في حزيران /1985/ بتفجير المعسكر الإسرائيلي في بقعاثا، ونفذت عشرات العمليات الفدائية ضد الاحتلال، وقدمت عشرات الشهداء، ومن مؤسسي الحركة نذكر: هايل أبو زيد، وصدقي المقت وبشر المقت وسيطان الولي وعاصم الولي وعصام أبو زيد وعصمت المقت وأيمن أبو جبل وزياد أبو جبل..
بلغ عدد السجناء والمعتقلين منذ العام /1967/ وحتى اليوم حوالي /700/ مناضلا، ما نسبته /20/ بالمائة من السكان، وعدد السجناء والمعتقلين اليوم في زنازين الاحتلال الإسرائيلي يزيد على /14/ مناضلا، ومن الشهداء الذين ضرجوا بدمائهم الذكية أرض الوطن نذكر: «عزت أبو جبل ونزيه أبو وزيد وفايز محمود والطفل فؤاد صبح»، و/ غالية فرحات/، الشهيدة البطلة التي استشهدت بتاريخ 8-5-1987 خلال التظاهرات ضد قوات الاحتلال والتي أصبحت رمزاً للمرأة السورية..
كلمة أخيرة
لقد سطر الجولان السليب سطوراً لا تنسى في صفحات المقاومة الوطنية والطبقية وهو اليوم في ظروف الثورات والانتفاضات العربية قادر على إطلاق زئيره الثوري المقاوم من جديد في الذكرى الـ44 لاحتلاله وأن يتنفس عبق الحرية من جديد، ولعل الجولان قادر على أن يشكل وجهة أساسية من وجهات الحركة الشعبية الحديثة العهد في سورية، فالجولان ورقة عباد الشمس التي تظهر الوطني من غير الوطني، وتأخذ المجتمع نحو فرز حقيقي ينهي الاصطفافات الوهمية ويؤمن الخندق من الطعنات الخائنة..