حول مبادرات السلم الأهلي... والمصالحة الوطنية!
مع تفاقم الأزمة وارتفاع منسوب التوتر، والنزف المستمر للدماء السورية بادرت العديد من الفئات المجتمعية وخصوصاً القطاعات الشبابية إلى طرح مبادرات عديده تتعلق بموضوعة السلم الأهلي والمصالحة والإغاثة وما إلى ذلك من أنشطة ومفاهيم تعكس الحس الوطني العالي، والنزوع الإنساني لدى الشعب السوري، وحرصه على وحدته الوطنية، وتعكس في العمق رغبته بالخروج الآمن من الأزمة الراهنة.
ومن نافل القول إن مثل هذه المبادرات والجدية منها تحديداً هي محل تثمين وتقدير كل من يهمه مصير البلاد ومصير أبنائه، ولكن السؤال هو كيف ستقوم بالدور الحقيقي المطلوب منها؟
إن موضوعا السلم الأهلي والمصالحة الوطنية هما ليستا مسألة تبويس شوارب، وعقد الندوات والمؤتمرات بقدر ما هو أولاً واخيراً فعل واع ينطلق من ضرورة الحفاظ على السلم الأهلي في أي ظرف كان، فلا يوجد فعلياً ما يبرر أي نزاع أهلي في البلاد على أساس قومي أو طائفي أو ديني أو مذهبي أو عشائري، باستثناء مصالح ضيقة لفئات وقوى من هنا وهناك، إن ضرورة الانطلاق من هذه الحقيقة تكمن في رفض أية مبررات أو أعذار قد تسوقها قوى مشبوهة موزعة اليوم في كل البنى المجتمعية.
أثناء الحديث عن السلم الأهلي يرى البعض أنها تعني تسويق مبدأ المحاصصة الطائفية أو القومية أو الدينية فهذا يتكلم باسم هذه الطائفة، وذاك باسم قومية ما، وآخر باسم هذه القبيلة أو تلك، ولعل هذا المنطق ينسف السلم الأهلي لا بل يقوض إمكانية الحفاظ عليه، فأغلبية الجماهير ورغم عمق الجراح ورغم محاولات فاسدي النظام والمعارضة سَموا حتى الآن فوق مثل هذه الصراعات المشوهة وتأتي موضوعة المحاصصة من البعض لتؤسس من حيث يدري من يطرحها أو لايدري للانغلاق على الذات، وترسيخ الشرخ الذي حدث في فترات سابقة نتيجة الواقع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، أو خلال فترة الأزمة أما الحديث باسم الكل الطائفي أو الديني أو القومي هو حديث غير واقعي، فداخل كل البنى المجتمعية قوى موالية وقوى معارضة، وقوى فاسدة وقوى شريفة، وقوى وطنية وغير وطنية، ومن الجدير بالذكر أن رفض منطق المحاصصة لا يعني بحال من الأحوال تجاهل مظاهر التمييز على أساس القومية أو الطائفة أو الدين التي كانت وما زالت ظاهرة، بل هي محاولة للتأكيد أن مثل هذه القضايا هي قضايا وطنية وتهم كل السوريين وحلها يتوقف على كل السوريين.
إن البنى التي تعمل في مجال السلم الأهلي يجب أن تكون عابرة لانتماءات ما قبل الدولة الوطنية هي وحدها الكفيلة بالحفاظ على السلم الأهلي، بنى تعتمد المبادىء الوطنية العامة التي يجب أن تكون فوق اعتبارات الصراع على السلطة، وفوق اعتبارات النظام والمعارضة، ونقصد بالمبادىء العامة هنا ضرورة الحفاظ على وحدة سورية أرضاً وشعباً، مع حق الشعب السوري في التغيير الذي يريده عن طريق النضال السلمي الديمقراطي.
والشرط الآخر الذي يجب توفره حتى يكتب لهذه المبادرات النجاح كما نعتقد هو رفض الاستقواء بأية جهة كانت سواء الاستقواء بالنظام أو الاستقواء بقوى اقليمية ودولية، فهذه القوى وبحكم موقعها في الأزمة ودورها هي المسؤولة عما آل اليه الوضع أصلاً فكيف سيكون الاستقواء بها حلاً وصوناً للسلم الأهلي؟
رغم الأزمة وتعقيداتها ومحاولة قوى عديدة تهويل التناقضات الثانوية، والصراعات الوهمية إلا أن الامكانية قائمة جدياً بتقديم نموذج تاريخي للحفاظ على السلم الأهلي يعبر عنه مصالح و إرادة الأغلبية الساحقة من السوريين بغض النظر عن انتماءاتهم الضيقه، ويعكس المستوى الحضاري الذي طالما ميّز الشعب السوري.