إيمان ذياب إيمان ذياب

لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي..

يشكل العنف أحد أخطر مظاهر العدوان التي لازمت البشرية، خاصة بعد تطور أنواعه وأساليبه وظهور أشكال جديدة له، تمثلت بظهور ثقافة جديدة لعنف مختلف لم يعتده الناس من قبل،  خاصة مع تزايد الصدامات في حلبة المجتمعات الدولية والمحلية. وتزايدت أعمال العنف الدامية بشكل يومي ووصلت في كثير من المناطق إلى حدود اللامنطق واللامعقول. فالعنف سلوك إيذائي قوامه إنكار الآخر، واستبعاده إما بقهره، وإما بنفيه وإما بتصفيته معنوياً وجسدياً، وهو سلوك قوامه القسوة والعدوان والقهر والإكراه ويمكن أن يكون فردياً يصدر عن فرد واحد كما يمكن أن يكون جماعياً، يصدر عن جماعة أو عن هيئة أو مؤسسة تستخدم جماعات وأعداداً كبيرة..

وأحياناً يمكن للعنف أن يصبح لغة التخاطب الأخيرة الممكنة مع الواقع ومع الآخرين عندما يصل الإنسان إلى اليأس ويشعر بالعجز عن إمكانية إيصال صوته وشكواه ومطالبه، أو عندما تترسخ لديه القناعة بالفشل في إقناع الآخرين بالاعتراف به وبحاجاته.

ويعتبر التعذيب أحد الأشكال الأشد وضوحاً للعنف، ويعني الإيلام، وهنا أيضاً المُثلة أو التمثيل ويعني تشويه الجسد حياً أو ميتاً، وللتعذيب أنواع، أهمها التعذيب السياسي الذي ارتبط  بظهور الدولة، وقد استخدمته الطبقات السائدة في المجتمع ضد الطبقات المنتجة من أجل فرض الهيمنة، ولكنه تحول أحياناً إلى صراع داخل الطبقة السائدة على حصص في السلطة والمزايا التي توفرها قيادة جهاز الدولة والحكم من خلاله، خاصة بعد طغيان الدور القمعي للدولة على دورها ووظائفها الاجتماعية. ظهر هذا الأمر بوضوح خلال انفجار الأزمة في سورية فقد أدى العنف الذي استخدمته الدولة في البداية  لقمع الحراك الشعبي السلمي، إلى استدراج عنف مضاد،  استدعى من الدولة لاحقاً المزيد من العنف وجر معه  البلاد إلى استمرار حلقة العنف والعنف المضاد.

وقد استخدم العنف في العصور الإسلامية لأغراض شتى منها التعذيب لانتزاع الاعترافات من المتهمين في القضايا العادية كالقتل الشخصي والسرقة، وقد انتشر في الحقبة العباسية الأولى، ولكونه لم يمس أمن الدولة والمصالح المباشرة للطبقة الحاكمة، فلم يجر استخدام أساليب خارقة للعادة كالتي استخدمت في التعذيب السياسي، وتعذيب الجباية لاستحصال الخراج أو الجزية من الفلاحين، وقد تفاقم تعذيب الممتنعين عن دفع الضريبة على يد الأمويين بتأثير حاجة الحصول على المال، نتيجة لسياسة الإفقار التي اتبعت ضد السكان، إذ ارتبط بطش الحجاج بن يوسف الثقفي مع تضاؤل حصيلة الخراج في أيامه، وأما التعذيب على سبيل العقوبة فقد نص عليها شرعاً مثل الجلد والرجم وقطع يد السارق وقطع أيدي قطاع الطرق وأرجلهم وصلبهم، وتعتبر تعذيباً لما فيها من إيلام سواء كان خفيفاً أو شديداً، وشملت أيضاً حالات القصاص كالإعدام بقطع الرأس في القتل العمد، وقد تجاوز الحكام المسلمون ذلك أحياناً، واستخدموا هذه العقوبات للتأديب والانتقام الشخصي أو للقصاص السياسي وجرائم المخالفة في الفكر، ومن أمثلة هذه العقوبات تعذيب الخادم الذي قتل أبو سعيد الجنابي مؤسس الحكم القرمطي في شرقي الجزيرة العربية. وعلى غرار القصاص هنالك تعذيب (المقابلة بالمثل) كما ورد عن النبي محمد (ص) في حادث العَرَنيين، وكانت الدولة مصدر التعذيب في كل الحالات السابقة فمن يقدر عليه هو المالك لجهاز الدولة، ويستثنى منه في حالات نادرة تحول الحكام أنفسهم لضحايا التعذيب، وقد فرضه العسكريون الأتراك بعد خلافة المتوكل ومنه سمل العيون حيث يفقد الخليفة حقه في الخلافة، ويضطر للتنازل عنها عند حرمانه من أحد شروطها وهو سلامة الجسد وغالباً ما يكون تدبير هذا الأمر بهجوم مباغت يدبر خلسة.

أظهرت الأزمة الكثير من الأشكال والمظاهر المذكورة عن العنف، ولامست حياة الناس اليومية، وجرى التسويق إعلامياً لربط ظاهرة العنف بالتراث الإسلامي من خلال الاعتماد على المخزون المعروف تاريخياً، ولكن بمقارنة بسيطة وقراءة حقيقية وكاملة للتاريخ والتراث يتبين أن هذه المظاهر ارتبطت بالحالة السياسية لا بالإرث الديني وعلى ذلك العديد من الدلائل، حيث اشتملت مصادر الحديث النهي عن التعذيب والمثلة ومنها حديث عبد الله الخطيمي : «نهى رسول الله عن النهبة والمثلة «

وأكثر من ذلك فقد نهى عن الغلظة والخشونة: وتعني الغلظة هنا: الغلظة في التعامل، وبالخشونة خشونة الأسلوب .. والفظاظة في الدعوة .. خلافاً لأوامر الله. فقد قال تعالى:

{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}

[النحل: 125].

وقال  رسول الله: (إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله).

وفي حرمة قتل المستأمنيـن:

قال تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ}

[التوبة: 6]

ومتى انعقد الأمان صار للحربي المستأمن حصانة من إلحاق الضرر به سواء من المسلم المؤمن أو من غيره من المسلمين والمؤمنين.

إن الخروج الآمن من الأزمة يشكل مطلباً حقيقيا وضرورة، تفرضها حقيقة أن استمرار العنف بات يهدد ليس فقط المجتمع  وإنما وجود البلاد ووحدتها الوطنية ككل، وتتمثل أولى خطوات الخروج التدريجي من حلقة العنف والعنف المضاد في البدء بالحوار واعتباره مقدمة لإعطاء الناس حقوقهم وإشراكهم بصناعة القرار المتعلق بحياتهم من خلال توسيع الحريات الديمقراطية.