«لا يمكن إخفاء الشمس بغربال»
التبصر الاقتصادي في ضوء الوقائع والمؤشرات والمستجدات على الأرض، هي أولى مهام القائمين على صناعة وتنفيذ القرارات الاقتصادية، والتي ترسم في ضوئها السياسات العامة والاجراءات الاستثنائية، إلا أن ما هو مسموح في علم الاقتصاد ممنوع في أدبيات الاقتصاد السوري، وفي أعراف نسق من المسؤولين التقليدين، وإعلامهم البائس..
فالنائب الاقتصادي هوجم من «الإعلام السوري والخاص منه بشكل اساسي» و«بأقلام بعض الصحفيين المقربين من رجال الأعمال» بعد حديثه عن «السكتة القلبية» التي ستصيب الاقتصاد إذا ما استمرت الأزمة، ونُظمت حملة إعلامية شرسة لأن جملته تلك لم ترق لبائعي التفاؤل والأحلام الوردية الكاذبة على شاشات التلفزة في زمن الكوارث الكبرى التي نعيشها الآن، إلا أن القادم من الأيام أثبت وصول الاقتصاد إلى «السكتة» فعلياً، أحب هؤلاء الاعتراف أم لا، وإلا فبماذا يمكن أن يفسروا جملة الأزمات التي نعيشها اليوم؟! هل هي أزمات عابرة يمكن حلها دون حل سياسي للأزمة الراهنة.
لم يسمع أحد من هؤلاء «المطبلين» أو يقتنع يوماً بالمصارحة والشفافية مع الشعب سبيلاً لتجاوز الأزمات، متجاهلين عن عمد أن الاعتراف بالخلل هو الخطوة الأولى على طريق العلاج، في علم الطب البشري وفي الاقتصاد أيضاً..
مؤشرات «السكتة القلبية» التي وصل إليها الاقتصاد ليست بالخافية على أحد إلا المتجاهلين، فمن أزمة الغاز، إلى المازوت، ومشتقات الطاقة عموماً، وصولاً لأزمة رغيف الخبز، مروراً بتوقف 50 بالمئة من حركة النقل داخل المحافظات وخارجها، وليس آخرها انقطاع الكهرباء في بعض المناطق والمحافظات لمدة تصل إلى 20 ساعة، وتأثير (نقص وفقدان مكونات الطاقة والكهرباء) على الزراعة والصناعة أيضاً، أي أن الشلل هو حالة الاقتصاد اليوم، حتى لو سعى البعض للتجميل..
أسباب الأزمة العميقة تعود إلى الخلل التراكمي في بنية القطاعات الاقتصادية، فأزمة الخبز والطحين التي نعاني منها الآن، تتعلق بالدرجة الأولى بسوء توزيع المطاحن ومعامل الخميرة في البلاد، وتركزها في ثلاث محافظات فقط (الخالدية في حمص، ريف دمشق، وحلب)، بالإضافة إلى صعوبة أو تعذر نقل الطحين والمشتقات النفطية من محافظة لأخرى، كما أن اضطرار الحكومة لاستيراد المشتقات النفطية، يمكن إرجاعه للمماطلة التاريخية في بناء أو متابعة المشاريع التي جرى الحديث عنها في هذا السياق، والمؤجلة منذ سنوات طويلة، والتي كان يمكن أن تحل جزءاً من المشكلة الحالية لو كانت منفذة وقائمة، يضاف إلى ذلك، الاعتماد شبه الكلي على الشركات الأجنبية، وعلى الخبرات غير الوطنية في استخراج واستكشاف النفط أيضاً، وهذا ما فاقم أزمة المشتقات أيضاً، وأدى لتراجع الإنتاج بفعل العقوبات من 400 ألف برميل في عام 2011 إلى 190 ألف برميل حالياً مع خروج أغلب الشركات الأجنبية من البلاد..
كذلك هو حال قطاع الكهرباء، الذي بدأ يعاني العجز في الإنتاج منذ عام 2003 لارتفاع الطلب المحلي وثبات الإنتاج، لتنتقل سورية تدريجياً من الفائض إلى الاستيراد.
هذه المؤشرات التراكمية من الخلل التاريخي في أغلب القطاعات الاقتصادية الرئيسية، وإخفاق الإجراءات الإسعافية التي أفشلتها قوى الفساد التي تزيد الأزمات تعقيداً من جهة، وتعرقل الحل السياسي والعاجل للأزمة السورية من جهة أخرى، وما يرتبط بها من حلول للاقتصاد السوري، هو من أوصل الاقتصاد إلى «السكتة» التي حاول الاعلام الممول من الفساد تجاهله، متناسين أنه «لا يمكن إخفاء الشمس بغربال»..