حلّ الأزمة السورية.. بين الموضوعي والذاتي
ترك تعقّد الأزمة السورية أثره على نفسية الإنسان السوري بشكل عام، بمشاعر اليأس والإحباط وعدم الثقة والخوف من المجهول، وضعف القناعة باقتراب إمكانية الحوار من التحول إلى واقع، وذلك رغم وصول التطور الموضوعي للأحداث عالمياً وإقليمياً وداخلياً إلى نقطة حاسمة بالانطلاق في مسار الحوار والحلّ السياسي. ورغم وجود رغبة لدى الأغلبية الساحقة من الشعب السوري بحل سلمي ينهي الأزمة وينقلهم إلى حياة أفضل دون اقتتال ودماء وتهجير وخراب وتعطيل شتى مناحي الحياة.
يظلّ للمشاعر السلبية السابقة عاملان أساسيان يغذيانها. بالنسبة للمواطن السوري يعتبر أحدهما عاملاً ذاتياً، أي يتعلق بوعي هذا المواطن بالأزمة وتصوّراته الذاتية عن أسبابها ومآلاتها الممكنة، ومدى إمكانية حلها، وما يعتبره صحيحاً أو خاطئاً من طرق الحلّ. أما العامل الآخر فهو عامل موضوعي، أي مفروض عليه من واقعه المعاش كحقيقة موضوعية يواجهها يومياً عبر زمن هذه الأزمة، بتفاصيلها الاقتصادية-الاجتماعية والسياسية، التي غلبت عليها مرارة العيش أكثر من حلوه، وعسره أكثر من يسره.
ولا شكّ أنّ العاملين مرتبطان بعضهما ببعض جدلياً ويؤثر أحدهما في الآخر، فالوعي الذاتي للمواطن لم يأتِ من فراغ، بل كان نتاجاً للظرف الموضوعي السابق منذ سنين قبل الأزمة، سنين عاش فيها السوريون في ظل استشراء الفساد الكبير وتراجع النمو الاقتصادي الحقيقي، وتدهور الوضع المعيشي، مع انخفاض مستوى الحريات السياسية، واستمرار قمعها. والتراجع النوعي في التعليم والثقافة والتربية، بحيث استطاعت الأفكار الرجعية والتفتيتية أن تشكل جزءاً لا يستهان به من الوعي الذاتي للمواطنين، وانخفاض مستوى الوعي السياسي الناتج عن موت الحياة السياسية في المجتمع لفترة طويلة، الأمر الذي جعل المواطن السوري لاحقاً عندما اندلعت الأزمة يشكل وعياً خاطئاً عن أسبابها الحقيقية ذات الجوهر الطبقي الاقتصادي-الاجتماعي، ويعزوها إلى التناقضات الثانوية المختلفة، من دينية وطائفية وقومية وعشائرية، الأمر الذي عمل فعلاً أعداء الشعب السوري في الداخل والخارج، والموجودون بين الأجانب وداخل أجهزة الدولة وفي النظام السياسي للحكم وللمعارضة، وفي المجتمع، على تغذيته مادياً ومعنوياً وإعلامياً. الأمر الذي يعيد إنتاج هذا الوعي الخاطئ ويحوّله إلى عامل موضوعي مجدداً، عبر التعبئة والشحن الديني والطائفي، لخلق واقع موضوعي يسوده الاقتتال الأهلي، وتدمير الدولة والمجتمع. فالفكرة تتحول إلى قوة مادية عندما تجد بيئة اجتماعية كافية لاحتضانها والمضي في تنفيذها.
والأفكار الخاطئة ليست محصورة في رأس المواطن العادي فقط، بل إنّ جزءاً كبيراً من القوى السياسية والأطراف المتشددة من الطرفين، أثبتت عبر هذه الأزمة، أنّ لديها كمية لا يستهان بها من الأوهام، ومن إنكار الواقع الموضوعي، والرغبات الذاتية في التعامي عن الحقيقة، وذلك عبر الإصرار على خطابٍ متعنّت وعنيد يرفض الحوار، أو يسوّف فيه، أو لا يتعامل معه بجدية، منطلقة بذلك من موقعها الطبقي موضوعياً الذي ينتج وعيها الخائف من خسارة مكاسبها، أو عدم الحصول على ما تعتبره مرضياً من حصة الثروة والسلطة.
لكن كيف تسير حركة التاريخ وما الذي يقرر التغيرات والمصائر في حركة المجتمعات البشرية؟ هل الرغبات الذاتية لأية قوة مهما كانت قابلة للتحقق على أرض الواقع بمجرد وجودها في رؤوس عناصر هذه القوة وقادتها؟ أم أنّ هناك قوانين موضوعية وحقائق على الأرض تفرض وجودها على الجميع، بغض النظر عن آرائهم ورغباتهم؟ متى تكون الرغبات والنوايا قادرة على تغيير المصائر، ومسير الأحداث في المجتمعات ؟
إنّ علم الاجتماع العلمي الوحيد، أي الماركسي، يقول إنّ الحقيقة موضوعية، وموجودة بغض النظر عن أفكار أو آراء أي كان بها، وأنّ الوجود الاجتماعي هو المحدد الأساسي للوعي الاجتماعي. ولن نعيد هنا التفاصيل المتعلقة بالتشخيص الماركسي للمرحلة التاريخية الحالية، والأزمة الاقتصادية العالمية للإمبريالية، وانعكاساتها الاجتماعية في الحراكات الشعبية العالمية التي نشهدها كنتيجة. فحقيقة انسداد الأفق التاريخي أمام قوى الإمبريالية والاستغلال الرأسمالي، مقابل انفتاحه أمام الشعوب الكادحة وقواها، أصبحت اليوم نظرية راسخة. وليس التغير في ميزان القوى الدولي والتغير بالمنحى العام لتطور الأحداث والتغييرات في المجتمع البشري اليوم على المستوى العالمي، وانعكاساته الإقليمية، وعلى الداخل السوري اليوم، سوى نتائج ومؤشرات إضافية على صحة هذه النظرية.
وتبقى الحقيقة بأن الظروف الموضوعية نضجت بالسير نحو الحوار، والحل السياسي في سورية، شاء من شاء وأبى من أبى، وتشدّد من تشدّد. ومهما ادعى ذلك الطرف أو ذاك أنّ له «الشرعية الديمقراطية»، وأنّ رأيه يمثل الشعب «شرعياً» أو «وحيداً»، أو بنسبة ما يرميها جزافاً، دون صناديق اقتراع، أو بانتخابات غير نزيهة، تبقى الحقيقة الموضوعية تفرض نفسها على الوعي الذاتي للجميع، في كل المواقع. والأمر الذي يدعو إلى التفاؤل هو أنّ هذا الحلّ ينطبق على مصلحة الأغلبية الساحقة من الشعب السوري التي تشكلّ الطبقة الكادحة في سورية، ويفتح إمكانيات تطورها اللاحق بوصفها القوى المنتجة، مبشّرة بفتح المسار اللاحق للانتقال نحو تغيير علاقات الإنتاج الرأسمالي التي تعيقها، وبناء العلاقات الجديدة المناسبة لها، والتي لا يمكن أن تكون إلا اشتراكية.