العنف.. متى ينتصر؟

ظهر العنف في التاريخ البشري كممارسة ملازمة للعلاقات الاجتماعية الطبقية، كأداة تؤدي بالجوهر وظيفة اقتصادية واجتماعية محددة. ولم يكن العنف بحد ذاته هدفاً أو غاية، فبعيداً عن العنف الفردي، لطالما كان العنف الاجتماعي أداة لتحقيق هدف سياسي أو اقتصادي محدد.

يتبادر للذهن، بمجرد ذكر مفردة العنف، العنف الدموي أو المباشر، وهذا الأخير ليس بالضرورة أشد أنواع العنف، بل ربما يتجاوزه العنف بأشكاله الأعقد المرتبطة بموضوعة العدالة الطبقية، كما في المصنع على سبيل المثال، أو العنف في المدرسة، المرتبط بعملية تكييف الفرد علمياً وتربوياً وأيديولوجيا مع النظام الاجتماعي والسياسي القائم، وصولا إلى عنف الدولة الذي يثبت النظام الاجتماعي والسياسي، ليس من خلال قوته العسكرية فقط، بل ومن خلال مؤسساته ودوائره البيروقراطية وأيديولوجيته السائدة.

فيما يخص النقطة الأخيرة، أي عنف الدولة، ترتدي المسألة طابعاً أكثر تعقيداً. إن جهاز الدولة بحد ذاته يقوم بوظيفة اقتصادية بامتياز، من حيث أنه يؤمن هيمنة طبقة اجتماعية بعينها على بقية الطبقات سياسياً، من خلال ملكيتها لوسائل الانتاج. ولكن جهاز الدولة يتمتع باستقلالية نسبية عن وظيفته الاقتصادية، هذه الاستقلالية تبقى ضمن الهوامش التي تسمح بالحفاظ على وظيفته الأساسية، وتعطيه بالوقت نفسه دوراً متميزاً ليظهر فوق الطبقات على عكس وظيفته الجوهرية.

ليصبح الأمر، حسب وصف أنجلس، كالآتي: «تقوم وظيفة اقتصادية ذات طابع اجتماعي بإنتاج العنف السياسي، الذي يتحول بحكم اكتسابه نوعاً من الإستقلالية، من خادم إلى سيد» وهذا بالطبع ليس بعيداً عن وظيفته..

يظهر من خلال تحليل موضوعة العنف بالشكل السابق، طابعه الموضوعي الملازم لواقع انقسام المجتمع إلى طبقات، وطبيعته كأداة- في نهاية المطاف- وليس أي شيء آخر. انطلاقاً من هاتين النقطتين تحديداً، يصح التمييز بين نوعين من العنف، الأول هو العنف الثوري، وهو الذي يخدم بمجمله، التطور الاقتصادي والسياسي الموضوعي، ولكي يؤدي هذه المهمّة، لا بدّ من توفر شروط أساسية فيه، لا ينجح بدونها بتحقيق غايته، كأن يأخذ بعين الاعتبار ميزان القوى القائم، والشروط الموضوعية للثورة. وأن يختار له الشكل الأكثر فعالية، والذي هو غالبا كما أسلفنا يتعلق بتحضير القوى الثورية الحقيقية إلى ممارسة نشاطها السياسي بكل الوسائل، وعلى رأسها تكوين الطليعة والحزب الثوري. ومن الشروط الأساسية أيضاً، أن العنف ينبغي ألا يرمي البتة إلى تنفيس عن الغضب، بل يهدف للاستيلاء على السلطة السياسية، أي هو يعي وظيفته وينطلق منها بما يجنب تدمير القوى المنتجة وعلاقات الانتاج، الأمر الذي يجلب نتائج عكسية بالضرورة.

النوع الثاني من العنف، هو عنف يخالف حركة التاريخ وتطوره الموضوعي، بمعزل عن الظروف التي ولّدته والنوايا التي تحركه، بل هو غالبا لا يعبر فقط عن نفسه، بل عما ولده من ظروف، كالعنف الفوضوي، ونزعة تحطيم الآلات، والعفوية الإنتفاضية. هذا العنف هو عنف مهزوم بالضرورة، في نهاية المطاف، بغض النظر عن القوة التي يمتلكها.

بالإسقاط على الحالة السورية، يتضح لنا الطابع المدمّر للعنف الممارس من طرفي الصراع على حد سواء، إذ لم يبد أي من هذين الأخيرين أي ممارسة أو برنامج يحفظ القوى المنتجة وعلاقات الانتاج من الدمار، وبالتالي يصنفان في خانة العنف المخالف لحركة التطور الموضوعي. في المقابل يتقدم موضوعياً الحل السياسي من خلال الحوار، الذي لا يخرج عن دائرة العنف الثوري، من حيث هو صراع إرادات، ولكن بشكل سلمي يحفظ مصلحة الطبقات المضطَهدة، التي تشكل الغالبية العظمى من السوريين، لذا فهو الوحيد الذي يمتلك شروطاً مادية، تسمح له بالانتصار في نهاية المطاف..