المعارضة السورية: عامان والفرز مستمر
في كواليس التحضير للقاءات مختلف القوى في سياق اقتراب الاستحقاق السياسي، تثار مرة جديدة مسألة تحديد صفات القوى السياسية التي سيتم وفقها تشكيل الوفود المتحاورة. حيث تعود لتظهر مرة أخرى عقلية الحزب الواحد في صفوف قوى «المعارضة» متجلية باحتكار منح شهادة «الثورية» لمن يتحدرون من معسكر «المعارضة» التقليدية حصرا والتي تتصف بالادمان البنيوي على الخارج وان بنسب وأساليب متفاوتة، الأمر الذي يشكل مفتاح تفسير وفهم مواقفها وتكتيكاتها. إن دراسة تمايزات القوى السياسية المعارضة التقليدية منها (مجلس اسطنبول/ائتلاف الدوحة وهيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الديمقراطي) وغير التقليدية (الجبهة الشعبية للتغيير والتحرير) يمر عبر معاينة الأهداف السياسية التي رفعتها كل منها كمهام آنية أثناء عمر الحدث السوري، ومن جهة ثانية عبر معاينة الأدوات النضالية التي كرستها أو طالبت بتكريسها في سبيل الوصول لتلك الأهداف. على أن نجاح ومصداقية أي قوة سياسية تدعي الثورية يتحدد بتبنيها أهدافاً ممكنة التحقيق وللغالبية الشعبية مصلحة فيها، بالاضافة لضرورة اختيار أساليب نضالية تسمح بالوصول لتلك الأهداف، على أن الوسائل النضالية من جنس الأهداف المنشودة حكماً.
الأهداف السياسية لقوى «المعارضة السورية»
بالنسبة لقوى المعارضة التقليدية، تلقف المجلس الوطني «اسطنبول» شعار «إسقاط النظام» كمعادل لرحيل رئيس الجمهورية منذ البداية، بالمقابل ترددت هيئة التنسيق قبل أن تتبناه في النصف الثاني من عام ٢٠١١، على أن هذه القوى اتجهت و تتجه اليوم للتخلي عن هذا الشعار مع تشكل مزاج «غربي» يميل للحل السياسي لا يشترط رحيل الرئيس كمدخل له.
بالمقابل تبنت الجبهة الشعبية للتغيير والتحرير منذ البداية شعار التغيير الجذري والشامل، رافضة شعار «إسقاط النظام» المعادل لرحيل رأس النظام لسببين، أولهما كون التغيير الحقيقي لابد أن يطال أسس المنظومة الاقتصادية الاجتماعية السياسية القائمة ككل، وأن وضع الرئيس يجب تناوله وفق ضرورات عملية التغيير التي تحفظ وتعزز لسورية موقفها الوطني وتحقق تغييرات اقتصادية وسياسية داخلية لمصلحة غالبية الشعب السوري. ثانيهما كون موازين القوى السياسية والدولية والاقليمية والداخلية لا تسمح بتحقق هذا الشعار هذا اذا تم افتراض صحته.
الأدوات والوسائل «النضالية»
تتمحور قضية الأدوات والأساليب النضالية حول عناوين ثلاثة: الموقف من العسكرة، الموقف من الحوار، الموقف من التدخلات الخارجية.
بداية تبنى مجلس اسطنبول «السلمية» التي سرعان ما تخلى عنها لمصلحة تأييد العنف كوسيلة لتحقيق «اسقاط النظام» (بالبداية تحت حجة حماية المظاهرات السلمية)، غير متوانٍ عن استدعاء التدخل الخارجي «الغربي» السياسي والعسكري تحت حجج حماية المدنيين وإقامة المناطق العازلة. كما رفض كل أشكال الحوار مع قوى الموالاة حتى الأمس القريب إذ بدأ موقفه بالتغير من الحوار إثر تغير الموقف الأميركي. ولئن كان ارتباط وتبعية مجلس اسطنبول وائتلاف الدوحة للغرب الاستعماري والقوى الرجعية العربية غير متضح الملامح في البداية لبعض السوريون، فقد أصبح ذلك أمراً واضحاً كعين الشمس.
أما هيئة التنسيق فقد رفعت منذ البداية شعار «السلمية» كشعار أساسي ودعت لمؤتمر وطني من أجل تحقيق التغيرات المطلوبة، إلا أنها ومع تصاعد دور العسكرة اعتبرت بعض قياداته أن «الجيش الحر هو جزء من الحراك الثوري»، رافضة بدء الحوار قبل تحقيق شروط «تعجيزية» وفي سبيل «نقل السلطة» حصراً. أما موقفها من التدخل الخارجي فتشوبه الشوائب، إذ رغم رفضها للتدخلات الخارجية العسكرية المباشرة (وترحيبها بالتدخلات السياسية «الغربية» و«العربية»)، إلا أنها عادت لتناقض نفسها بشكل صارخ إثر رفضها للفيتو الروسي- الصيني الذي دفع إمكانية تحقق التدخل العسكري المباشر. كما أن المنسق العام للهيئة حسن عبد العظيم ونائبه هيثم مناع قد دعوا لتدخل قوات ردع عربية في سورية «لوضع حد للحل الأمني العسكري الذي تبناه النظام»، كما لو أن الدول العربية مستقلة وسيدة قرارها، ولا تحتكم لأميركا بخطوات من هذا النوع!
أما الجبهة الشعبية فقد أعلنت أن تحقق التغيير المنشود وتفادي مخاطر الانزلاق نحو أزمة شاملة لا يمكن أن يتم دون حل سياسي عبر الحوار وتشكيل حكومة وحدة وطنية، بالوقت نفسه الذي تقوم الحركة الشعبية السلمية بمفهومها الواسع والعابر للثنائيات الوهمية بدور الضاغط والضامن لتحقق التغيير عبر دورها الاحتجاجي السلمي الميداني وعبر مشاركتها على طاولة الحوار. أما فيما يخص موقفها من التدخل الخارجي، فقد أعلنت موقفا واضحاً لا لبس فيه ضد التدخلات الخارجية السياسية منها والعسكرية المباشرة أو غير المباشرة من القوى الاستعمارية التاريخية والدول الاقليمية الدائرة في فلكها. بالمقابل رحبت الجبهة بالدور الروسي-الصيني السياسي الذي تصدى لمحاولات «الغرب» الاستعماري شرعنة التدخل العسكري الخارجي في سورية عبر المؤسسات الدولية، ومنع فرض حلول «سياسية» من الغرب وشركائه بالمنطقة، داعياً مختلف الأفرقاء إلى طارلة الحوار، نافياً انحيازه لطرف دون آخر، ومؤكداً على ضرورة أن يحدد السوريون وحدهم مصير الرئيس بالطرق السياسية.
مقاييس ومعايير المعارضة التقليدية
لئن لعب الإعلام، المسيطر عليه من قوى المال العالمي والفساد المحلي، دوراً أساسياً في تبسيط وتمييع المفاهيم السياسية والمعايير التي تتمايز على أساسها القوى السياسية، فقد تكشف اللبن أسود والقوى «المعارضة التقليدية» كقوى ثورية جذرية. فبمراجعة الخطاب الذي يتبناه ويتواطأ عليه جزء كبير من القوى السياسية السورية باختلاف مواقفهم موالاة أو معارضة، فإن لقب المعارض الثوري يطلق حصرياً على من تورط بالمواقف التالية:
- تبني شعار سياسي أثبتت سنتان من الحدث السوري خطأه، أي شعار اسقاط النظام (رحيل الرئيس) كهدف سياسي آني. أي أن معيار المعارضة من حيث الهدف هو علو سقف شعارها شكلياً بغض النظر عن مدى واقعيته و صحته وما ترتب عليه من إقحام للجماهير في معارك خاطئة وخاسرة، دفعت وتدفع هي وحدها ثمنها دماءً ووطنا.
- التبني الواضح للعسكرة كأداة لتغيير النظام والدعوة للتدخل العسكري والسياسي لقوى الغرب الاستعماري على صورة المجلس والائتلاف الوطني، أو النسخة المخففة على صورة هيئة التنسيق التي طرحت جملة شعارات متخاصمة متناقضة على هذا الصعيد من «السلمية» إلى «اعتبار الجيش الحر جزءاً من الحراك الثوري» إلى رفض التدخل العسكري وبالوقت نفسه رفض الفيتو الروسي-الصيني إلى الدعوة لتدخل قوات عسكرية عربية!! شعارات متناقضة تنتقي منها قيادة هيئة التنسيق ما تشاء حسب السياق وحسب الحاجة، فاليوم ومع زوال وهم إمكانية تحقق التدخل الخارجي العسكري المباشر وفشل العنف كوسيلة ل «إسقاط النظام» تطل علينا قيادة هيئة التنسيق لتؤكد أنها كانت دوما ضد التدخل الخارجي العسكري وكانت دوما ضد العسكرة!
ان مجمل مواقف قوى «المعارضة» التقليدية على صعيد الأهداف والأساليب النضالية يفسرها إما ارتباط بعضها عضوياً ب «الغرب» أو إدمان بعضها الآخر للتدخلات الخارجية كتعويض عن فقدان الثقل المحلي، وإن كان بأساليب و نسب مختلفة فهيئة التنسيق مثلاً حاولت الاستفادة من نتائج التدخل الخارجي دون أن تسجل الدعوة له باسمها في صفحات التاريخ وهو ما يفسرالتناقضات في مواقفها. أما موقفها من شعار «إسقاط النظام» الذي ترددت قبل تبنيه، فلا يفسر سوى بانتصار الجشع السياسي متثملا بالسعي للاكتساب السهل والسريع للجماهيرية عبر النفاق على الجماهير ومداعبة مزاجها، بدل التعبير عن مصالحها وإن تطلب ذلك التصادم مع مزاجها الآني.
الجبهة الشعبية للتغيير والتحرير كمعارضة غير تقليدية
إن الوعي السياسي لشعوبنا وقوانا السياسية التقليدية كجزء من بلدان تابعة يتأثر بقوة بالسيطرة الأيدلوجية لقوى رأسمال وزبانيتهم المحليين. بالملموس فإن المفهوم السائد عن المعارضة والنظام محصور بمعاييره السائدة بنموذج النظام السياسي «الغربي»، رغم اختلاف الشرائح الاجتماعية وجهاز الدولة دورا وبنية في بلدان المحيط الرأسمالي التي تشكل سورية جزءاً منها عما هي عليه في دول المركز. فإذا كانت المعارضة هي الأقلية في مجلس الشعب ولا تنتمي للحزب الحاكم، أو غير موجودة أصلا في جهاز الدولة، فإن جزءاً مهماً من المعارضة الأساسية الفاعلة وليس الصوتية في بلدان المحيط يتواجد في صلب الحزب الحاكم نفسه وفي صلب جهاز الدولة، و هو ما تشهد عليه التحولات الكبرى التي خضعت لها دول وأمم تحت إمرة الحزب نفسه بمجرد وفاة أو رحيل قيادي ما ومجيء آخر.
أحد أهم العناصر المكونة لرؤية الجبهة للوضع السوري، هو زيف ثنائية معارضة/نظام كونها لا تمثل التناقض الأساسي الذي يجري على أساسه الصراع في وعلى سورية. فالتمايز بين القوى السياسية يتم وفق موقفها من نمط توزيع الثروة والنظام السياسي المطابق لها والموقف من الولايات المتحدة الأميركية والكيان الصهيوني، إذ نجد داخل كلٍ من النظام والمعارضة قوى متناقضة وغير متسقة المواقف والغايات من هذه القضايا. أي أن النظام كما المعارضة ليسوا كتلاً متجانسة لا بل متناقضة. إذا، القوى القادرة على إخراج سورية من الأزمة ووضعها على سكة التغيير الحقيقي كما القوى التي تدفع نحو العنف وتدمير سورية وإجهاض عملية التغيير الجذري موجودة في كلا الطرفين.
اذاً بناءً على رفضها للتدخل الخارجي وللثنائية الوهمية معارضة/نظام، سعت الجبهة الشعبية لتكوين أطر سياسية عابرة للاصطفافات الوهمية في طريق الذهاب للحوار الوطني وفق مبدأين نبذ العنف من أي طرف كان ورفض التدخل الخارجي، وعليه سعت للتواصل مع قوى بالمعارضة من ضمنها هيئة التنسيق ودخلت حكومة ائتلافية باشتراطاتها البرنامجية المعروفة حول انضاج ظروف الحل السياسي. وهو ما عيرتها به قوى المعارضة التقليدية التي تعرف هي نفسها اليوم بوجود «قوى شريفة و غير ملوثة اليدين بالدماء داخل النظام» يمكن التحاور معها و تشكيل حكومة وحدة وطنية معها. إن الجبهة الشعبية كنموذح لا يعارض النظام السياسي القائم وحسب وإنما لكل الفضاء السياسي المتهاوي بمعارضته التقليدية ونظامه.
يبقى لنا أن نتساءل عن الأسباب التي تدفع هيئة التنسيق لحجب صفة «المعارضة» عن الجبهة الشعبية منذ بداية الحدث السوري، فهل هو ناجم عن مجرد قصور فكري؟ أم عن متلازمة الحزب القائد؟ أم عن الجشع السياسي سابق الذكر؟ أم خوفا من إغضاب القوى «الغربية» الاستعمارية التي تضع فيتو على الجبهة الشعبية؟ أم هو مزيج من كل هذه الأسباب؟!