من «يالطا» إلى «جنيف»..!
يعانى الفكر السياسي السوري في المرحلة الراهنة، من جملة من الأمراض الوظيفية التي قادتهُ إلى مأزق القراءة الجزئية، وأحادية الجانب للواقع السوري، وقراءة الهوامش دون قراءة المتن، فمعظم المقاربات للشأن السوري، تجاهلت العديد من العوامل الأساسية والوقائع المؤثرة في المسألة السورية وتحديداً توازن القوى المحلي والاقليمي والدولي.
هذا التجاهل يعني أول ما يعني فقر في قاعدة البيانات التي من المفروض الاعتماد عليها في الاستقراء والتحليل والاستنتاج، وبالتالي طرح الشعار الصحيح في الظرف الملموس.
الأعمى وحده لايرى اليوم حقيقة أساسية، وهي: أنه ثمة قوى دولية هيمنت على المشهد العالمي عقدين من الزمن باتت في حالة تراجع، وأن فراغاً ما يتكوّن من جراء ذلك، وبالتالي فإن ملء هذا الفراغ أمر لابد منه بحسب قوانين الطبيعة والمجتمع، وأن القوى الوحيدة المرشحة لملء الفراغ هي تلك القوى الصاعدة على المستوى العالمي. وعندما نقول قوى صاعدة نعني تلك القوى المرشحة لمنافسة الدور الأمريكي الذي كان يعتمد على تفوقه الاقتصادي والعسكري، وهذه القوى المنافسة وإن لم تتجسد في دولة واحدة في عالم اليوم فأنها بتكاملها (روسيا عسكرياً، والصين اقتصادياً)، مع بقية القوى، تستطيع أن تلجم الاستفراد الامريكي بالهيمنة على المستوى الدولي.
في ظل هذا المعطى التاريخي كانت الأزمة العميقة التي تعيشها البلاد، ومن الطبيعي أن يكون الوضع السوري أحد البنود الموضوعة على جدول أعمال الدول الكبرى.
درس من التاريخ: يالطا 1945
منذ أن تمت عملية تدويل الرأسمال، ومحاولة دمج العالم قسرياً حاولت الدول الكبرى امتلاك كل أدوات التحكم والسيطرة من قوة اقتصادية وعسكرية وإعلامية واستخباراتية، وبالتالي فأن ما كان يجرى في أي بلد من بلدان العالم كان يتأثر بالتوازن وتقاطع أو تناقض المصالح بين تلك الدول. هكذا كان الوضع في الحرب العالمية الأولى، (سايكس بيكو- تفكك الامبراطورية العثمانية.. انكسار المانيا). وهكذا كان في الحرب العالمية الثانية التي حددت سمت العلاقات الدولية وطبيعتها حتى انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1990. طبعاً ذلك لايعني نفي دور العوامل الداخلية التي تلعب دوراً بالتوافق مع اتجاه تطور الوضع الدولي أو بالسير عكسه.
في مدينة «يالطا» السوفياتية الواقعة على سواحل البحر الأسود وفي 4-11 شباط من عام 1945، تم توقيع الاتفاقية التي عرفت باسم المدينة ومن خلالها حددت القوى المنتصرة في الحرب العالمية الثانية منطقاً جديداً في العلاقات الدولية فرضه توازن الأمر الواقع للقوى، مع التنويه إلى عنصرٍ ميّز هذا التوازن الجديد كان وجود الاتحاد السوفييتي كقوة صاعدة ذات مشروع مختلف عن المشروع الرأسمالي، قوة خرجت منتصرة من الحرب بعد دفع أكبر الأثمان من بين الدول المنتصرة، مما أهّلها لأن تلعب دوراً في تغيير كل بنية العلاقات الدولية. وجدنا انعكاسات ذلك في تبلور حركة التحرر الوطني، وبلدان المنظومة الاشتراكية، وسيادة مفاهيم العدالة الاجتماعية والاشتراكية على النطاق الكوني، ومن الجدير بالذكر هنا هو أن الحربين العالميتين كلتيهما كانتا على خلفية أزمة رأسمالية عميقة..
جنيف 2012:
يميل بعض رجالات السياسة والفكر والإعلام إلى تشبيه لقاء جنيف بين أوباما وبوتين في العام الماضي بمؤتمر يالطا، أوباما كرئيس دولة تمر بحالة تراجع نتيجة أزمة اقتصادية عميقة بات معترفاً بها، مع ما تعنيه هذه الأزمة من تراجع الدور على المستوى العالمي، وبوتين كرئيس دولة صاعدة تريد أن تعود الى حلبة العلاقات الدولية بزخم جديد بالتكامل مع حلفائها في مجموعة «البريكس» وخصوصاً الصين، مستفيدة من تراجع واشنطن. ويرى من يتبنى هذا الرأي بأن ذلك سيتجلى من خلال تأثيره على تطور الأوضاع في العالم، وشاء التطور التاريخي أن تكون سورية نتيجة الظرف الناشىء على خلفية الأزمة وتأثيراتها الإقليمية والدولية مركز زاوية الانعطاف. ولقد كشف تطورالأحداث وتبدل المواقف المعلنة لكل القوى السياسية في النظام والمعارضة لصالح هذا الاستنتاج، الأمر الذي يؤكده تسابق القوى المختلفة بالحديث عن الحل السياسي بما فيها القوى المتشددة، دون أن يعني ذلك عزم هذه القوى تحديداً للتوجه إليه فعلياً.
وفي كل الأحوال فقد عجز الفكر السياسي السوري عن التقاط هذه الحقيقة، وراح يسير وراء الحدث دائماً، وهو المنوط به افتراضاً عملية التنبؤ باحتمالات تطور الأوضاع ووضع الخطط والتكتيكات على أساس ذلك. واليوم وبعد انفتاح الطريق أمام الحل السياسي على الأقل موضوعياً، فإن هذا هذا الفكر مدعو إلى أن يفهم «اتفاق جنيف» على حقيقته، من حيث كونه إيذان بمرحلة جديدة في العلاقات الدولية وفي مصائر الشعوب والأنظمة وربما خرائط النفوذ، وهو بالتالي فرصة ذهبية لبناء سورية الجديدة، لا التعاطي معه على أساس بازار زيادة أو إنقاص ما يريده الجانب الامريكي فقط، أي التخفيف أو زيادة آثار الانتقال من النموذج السابق إلى نموذج اللادولة، الذي يعبر عنه بما يسمى ديمقراطية المكونات.
إن المكونات التي ينبغي الحديث عنها وتعزيز تثبيتها لبناء مستقبل سورية عليها هي المكونات السياسية للمجتمع السوري، وإن أي حديث يتناول «المككونات العرقية والطائفية» سيودي بالبلاد إلى التهلكة، على النموذج اللبناني أو العراقي.