جهاد أسعد محمد جهاد أسعد محمد

الافتتاحية: لا لإراقة الدماء.. نعم للوحدة الوطنية

الحقيقة التي يسلّم بها الجميع في سورية الآن، أن دماء مواطنين شرفاء قد أريقت في درعا، دماء طاهرة كان يمكن بقليل من الحكمة والمسؤولية وبعد النظر ألا تراق.. أما ما عدا ذلك فثمة اختلاف على كل شيء..

والثابت أن ما جرى ويجري في حاضرة حوران ما يزال حتى الآن مفتوحاً على تأويلات متباينة، تختلف باختلاف ثقافة ووعي وأحلام ومواقع مختلف شرائح الناس، وبقرب أو بعد هذه الجهة أو تلك عن النظام، وبقرب أو بعد الجهات نفسها وسواها عن القوى الإمبريالية والتابعين لها من القوى والأنظمة العربية، رغم أن الحدث ليس بهذا المستوى من التعقيد.. فالبعض يراه انتفاضة «غضب»، أو ثورة من أجل الحرية، إما لغاية في نفوس قسم منهم أبعد ما تكون عن مصالح الناس «المنتفضين»، أو لرغبة مشروعة لدى قسم أوسع في الحصول (أخيراً) على بعض الحقوق المحروم منها تاريخياً.. والبعض يراه أعمال شغب، أو مؤامرة خارجية، إما ليسهّل على نفسه قبول القمع الجاري وربما المشاركة فيه لأنه يخدم مصالحه الضيقة، أو خوفاً - لدى قسم أوسع- من أن تخسر البلاد أمنها ووحدة شعبها وترابها.. وكثيرون تختلط لديهم الأمور بين هذا وذاك، بينما الدم ما يزال يسيل، والمواجهات على أشدها، والمعالجة الأمنية هي وحدها سيدة الموقف.

والحقيقة التي لابد من الاعتراف والتسليم بها، أن أحداث درعا لها كل مبرراتها الموضوعية، وقد مرّ بعضها في المطالب المرفوعة وربما اختصرتها كلمة «الحرية»، وهي حزمة واسعة من الظروف الاقتصادية – الاجتماعية والديمقراطية التي تجاوزت في تردّيها صبر الناس وتحمّلهم، تبدأ من غياب الحريات العامة بصورة شبه مطلقة، ولا تنتهي عند تفاقم النهب والفساد والفقر والبطالة والغلاء والمحسوبيات والاعتداء على أملاك الدولة وثرواتها وبيع مرافقها الحيوية وخصخصة منشآتها وغياب المحاسبة وسيادة القانون... وكلها تكرست وازداد تفاقمها بعد انتهاج واعتماد الليبرالية التي أوصلت الناس إلى حافة الاختناق.

ولاشك أن أي حراك شعبي يفتح شهية كل القوى على اختلاف غاياتها وصفاتها وجنسياتها لامتطائه وتوجيهه بالاتجاه الذي تريد، وهو الذي ربما جرى في درعا، ولكن هل يبرر ذلك ترك المسألة للجهات الأمنية لمعالجته بالحديد والنار؟ بالطبع لا! بل ومن الحمق تصوّر أن ذلك سيحسم المسألة.. بل إن المضي بذلك قد يفتح المجال مشرّعاً لتحول الحراك المشروع إلى فوضى خلاقة بكل ما للكلمة من معنى وأمنيات أمريكية وصهيونية وخليجية..

الجهات المسؤولة التي برّأت نفسها من الدم المراق، ملمّحة أن «مدسوسين منتحلين صفات شخصيات أمنية وضباط رفيعي المستوى» هم المسؤولون عن سفحه، سمّت في أحسن كلام نشرته وسائل إعلامها حتى الآن، بعض الضحايا شهداء، وهو أقل ما يستحقون، ووعدت بمحاسبة المسؤولين، وسوى ذلك كانت تقول في الصباح شيئاً وفي المساء شيئاً آخر، مستحضرة في كثير من الأحيان مسوّغات ومصطلحات وروايات بعضها أكل الدهر عليه وشرب، وقرف الناس منه لدرجة الإقياء، وبعضها يمكن أن يكون صحيحاً ولكنه افتقد إمكانية تصديق أيّ من المواطنين له، وبدا سلوكها الميداني في التعاطي مع الحدث محكوماً بالعشوائية وقلة الحنكة وضعف البصيرة، ولا يرتقي لمستوى وخطورة نشاط الكثير من الخلايا النائمة في جهاز الدولة والمجتمع التي تتحرك وفق أجندات خارجية وبإيعاز من القوى المعادية لسورية وشعبها، وطغى على تصريحات بعض المسؤولين والإعلاميين الرسميين نقص مريع في إدراك الخطر القائم في البلاد ومآلاته المعقدة، وإذا ما تجرأ «مصرَّح له» منهم بالوقوف أمام كاميرات المحطات الإخبارية العربية أو الأجنبية، فإنه يرتبك أو يصمت أو يردد عبارات جاهزة بينما الأسئلة تنهال عليه كالرصاص!

أما الإعلام الرسمي وشبه الرسمي فبدا هشّاً وعاجزاً، ولم يستطع مجاراة الإعلام الغربي بامتدادته العربية، الذي لم يتوقف عن محاولة  دفع الحراك بالاتجاه الذي يريد، وإبراز أسماء وشخصيات وقوى معظمها له ارتباطاته وأجنداته المشبوهة، وترويج شائعات خطيرة، طال بعضها حزب الله لتشويه صورته الناصعة في سورية، وبالتالي التطاول على مفهوم المقاومة نفسه عبر محاولة تلويث اسم وسمعة أحد أبرز رموزها..

إن الخطر أصبح شديداً جداً، ووحدة البلاد باتت مهددة جدياً، وإن كان هناك من يرغب صادقاً في مواجهة احتمال أن تغرق سورية في الفوضى الخلاقة، فعليه أن يبادر إلى تبني وإعلان نقيضها الجذري وهو الثورة.. الثورة على الفساد، وعلى النهب، وعلى قمع الناس، وعلى محاولات ربط سورية بالمشاريع والصناديق الأمريكية والصهيونية، وعلى التدخلات الخارجية أياً كان نوعها ومنطقها وإيديولوجيتها، وعلى التنفذ والمحسوبيات، وعلى بيع البلاد للمستثمرين، وعلى التفريط بحقوق ومكاسب الناس والدولة، وعلى الاحتلال الصهيوني.. وهذا برسم القوى الوطنية كافة، وبرسم المجتمع وشخصياته الشريفة، وبرسم المثقفين الوطنيين، وبرسم النقابات، وبرسم النظام نفسه ليثور بنفسه لنفسه وعلى نفسه... هكذا فقط يمكن إنقاذ البلاد في الوقت القصير المتبقي..