48 عاماً على فرض قانون الطوارئ.. تعطيل الدستور والحياة السياسية والحراك الاجتماعي

تمر سورية اليوم بمنعطف خطير،  ذلك أن الموقف الوطني السوري، مهدد بتهديدات مباشرة، ويجري محاصرته من الأعداء الخارجيين وما أكثرهم، بدءاً من زعيمة الامبريالية العالمية وربيبتها إسرائيل، مروراً بما يسمى بالعالم «الحر»، وانتهاءً بالقوى الرجعية العميلة لها داخليا وخارجيا، الأمر الذي يستدعي وبسرعة فائقة، أن تجري عمليات إصلاحات داخلية من أجل تقوية الجبهة الداخلية وتصليبها وصيانتها من كل الأعداء المتربصين بالبلاد..

إن إعلان حالة الطوارئ واستمرارها كل هذه المدة، منذ نصف قرن، هو أحد الأسباب التي وضعت البلاد  أمام منعطف حاسم.

 

لمحة تاريخية عن حالة الطوارئ

تتسم حالة الطوارئ السورية المفروضة منذ عهد الوحدة وحتى الآن، بأنها الحالة الأطول في التاريخ، وإن أول إعلان لها في سورية بعد الاستقلال، تم بالقانون رقم 400 تاريخ 15/5/1948، بمناسبة حرب فلسطين، وفي اليوم نفسه صدر القانون رقم 401، القاضي بإعلان الأحكام العرفية في أراضي الجمهورية السورية ،وحدد مفعولها بستة أشهر، ابتداء من نشره،  وبتاريخ 22/6/1949 صدر المرسوم التشريعي رقم 150، الذي ينظم الإدارة العرفية، والذي استوعب ما ورد بالقانون رقم 400 بالكامل، ولم ينص صراحة على إلغائه.

ثم صدر القانون رقم 130 تاريخ 8/12/1955، الذي صار متمما للمرسوم التشريعي رقم ،150 المتعلق بتنظيم الإدارة العرفية.

ولكن في مرحلة الوحدة مع مصر، صدر المرسوم التشريعي رقم 162 تاريخ 27/9/1958 لتنظيم حالة الطوارئ، التي جاءت بها حكومة الوحدة.

وفي عهد الانفصال، صدر القانون  رقم 51، الذي ألغى القانون رقم 162، ولكنه مازال  ساري المفعول حتى الآن، على الرغم من أن المادة 12 للقانون 162 نصت على إلغائه :

«المادة 12 - يلغى قانون حالة الطوارئ رقم 162 الصادر في 27/9/1958 وجميع تعديلاته»

وفي 8/3/1963، صدر الأمر العسكري رقم 2 والذي نص على ما يلي:

إن المجلس الوطني لقيادة الثورة يقرر ما يلي:

المادة الأولى:

تعلن حالة الطوارئ في جميع أنحاء الجمهورية العربية السورية ابتداء من 8/3/1963 وحتى إشعار آخر.

إن إقرار حالة الطوارئ بالأمر العسكري رقم 2، اعتمادا على  القانون رقم 51 تاريخ 9/3/1963، والذي جاء معدلا للقانون رقم 162 تاريخ  28/9/1958، جاءت مخالفة لنصوصه، وخاصة المادة الثانية منه الفقرة آ، التي تنص على: «آ- تعلن حالة الطوارئ بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء المنعقد برئاسة رئيس الجمهورية وبأكثرية ثلثي أعضائه، على أن يعرض على مجلس النواب في أول اجتماع له»، وحينها لم يكن رئيس الجمهورية ولا مجلس الوزراء موجودا، بل كان مجلس قيادة الثورة هو الموجود، ولم يكن لمجلس النواب وجود أصلاً، أي أن فرضه ليس دستورياً منذ إقراره وحتى الآن، وبالتالي فالمجتمع السوري حُكِمَ بفعل قانون يشوبه لبس في إقراره،  ولم تنتبه كل الحكومات اللاحقة وحتى الآن لهذه المسألة الجوهرية الملتبسة، والإجراءات المخالفة لنصوصه المتخذة في إقراره وسريانه طيلة 48 عاما ونيف.

محتوى قانون الطوارئ

لقد احتوى القانون 14 مادة، وربما ما يهم القارئ منها، مادة واحدة منها فقط، تلك التي تنص على:

«المادة 4 - للحاكم العرفي أو نائبه أن يصدر أوامر كتابية باتخاذ جميع القيود والتدابير الآتية أو بعضها، وأن يحيل مخالفيها إلى المحاكم العسكرية:

أ- وضع قيود على حرية الأشخاص في الاجتماع والإقامة والتنقل والمرور في أوقات معينة، وتوقيف المشتبه فيهم أو الخطرين على الأمن والنظام العام توقيفاً احتياطياً، والإجازة في تحري الأشخاص والأماكن في أي وقت، وتكليف أي شخص بتأدية أي عمل من الأعمال.

ب- مراقبة الرسائل والمخابرات أياً كان نوعها، ومراقبة الصحف، والنشرات، والمؤلفات، والرسوم والمطبوعات والإذاعات وجميع وسائل التعبير والدعاية والإعلان قبل نشرها وضبطها ومصادرتها وتعطيلها وإلغاء امتيازها وإغلاق أماكن طبعها.

ج- تحديد مواعيد فتح الأماكن العامة وإغلاقها.

د- سحب إجازات الأسلحة والذخائر والمواد القابلة للانفجار والمفرقعات على اختلاف أنواعها، والأمر بتسليمها، وضبطها، وإغلاق مخازن الأسلحة.

ه- إخلاء بعض المناطق أو عزلها، وتنظيم وسائل النقل وحصر المواصلات وتحديدها بين المناطق المختلفة.

و- الاستيلاء على أي منقول أو عقار، وفرض الحراسة المؤقتة على الشركات والمؤسسات، وتأجيل الديون والالتزامات المستحقة والتي تستحق على ما يجري الاستيلاء عليه.

ز- تحديد العقوبات التي تفرض على مخالفة هذه الأوامر، على ألا تزيد على الحبس مدة ثلاث سنوات، وعلى الغرامة حتى ثلاثة آلاف ليرة، أو إحداهما.

ح- وإذا لم يحدّد الأمر العقوبة على مخالفة أحكامه، فيعاقب على مخالفتها بالحبس مدة لا تزيد على ستة أشهر، وبغرامة لا تزيد على خمسمائة ليرة، أو بإحدى هاتين العقوبتين.

ط- كل ذلك مع عدم الإخلال بالعقوبات الأشدّ المنصوص عليها في القوانين الأخرى..».

وقد ترافق إقرار حالة الطوارئ مع إحداث محاكم استثنائية، إضافة للمحاكم العسكرية، كمحكمة أمن الدولة والمحكمة الاقتصادية، والتي لا تقبل أحكامها الصادرة عنها أية طريقة من طرق الطعن.

نتائج كارثية على المجتمع السوري

 

مما لا شك فيه أن كل قوانين الطوارئ في العالم تستند في إقرارها حقوقياً إلى «نظرية الحوادث الاستثنائية»، وكلمة استثنائية تعني أن هناك حالات محددة تفرض فيها حالة الطوارئ، وهي ثلاث حالات: حالة الحرب، حالة تعرض الأمن أو النظام العام في أراضي الجمهورية أو في جزء منها للخطر، وقوع كوارث عامة.

وتعني كلمة استثنائية أيضاً، أن فرضها يجب أن يتم لمدة زمنية محددة، تنتهي بانتهاء الحالة التي أوجبت فرضها، ولكن فرضها بشكل دائم مع كل الامتيازات التي منحها هذا القانون للسلطة، أفرز نتائج كارثية، تراكمت خلال نصف قرن، وأضحت عائقاً وسبباً أساسياً، حد إلى حدود قصوى من تطور سورية في كل المجالات، وأضحى البناء الفوقي معطوبا.

تكمن أهمية الدستور السوري بما تضمن من مواد حافظة لحق المواطنة، ولكن يمكن القول إنه تم الاستيلاء على معظمها بفعل قانون الطوارئ سيئ الصيت هذا، فلقد أصبح بمقدور جهات تنفيذية بفعل هذا القانون، أن تعد على الناس أنفاسهم وذهابهم ومجيئهم، وما يأكلون وما يلبسون، ومتى ينامون، ومتى يستفيقون، وكيف يفكرون... هذا مسموح، وذاك محرم، وهذا يجوز، وذاك لا يجوز، وهذا ضار، وذاك مفيد،

عدم الفصل بين السلطات

 

 إن الأسلحة والامتيازات التي حصلت عليها السلطة من هذا القانون، تلازم معها بالضرورة تعطيل الفصل بين السلطات، وأصبحت السلطة التنفيذية هي السلطة المهيمنة على باقي السلطات التشريعية والقضائية والسلطة الرابعة وهي الإعلام والصحافة، فانتخابات مجلس الشعب انتخابات موجهة، وأعضاؤه لا يملكون من أمرهم شيئا، وهم غير قادرين على متابعة الحكومة و محاسبتها، أما السلطة القضائية فأضحت تعمل تحت إمرة السلطة التنفيذية، فانتشر فيها الفساد وضعف الأداء، وأصبح المال يتحكم بالأحكام الصادرة في الدعاوى المرفوعة أمام القضاء، فيتحول الحق إلى باطل والباطل إلى حق، وتحول شعار الشرطة في خدمة الشعب، إلى نقيضه تماماً مع الفساد الذي استشرى في صفوف الجهات التنفيذية، بدءاً من شرطة المرور إلى الجمارك العامة... وغيرها.. أما الصحافة والإعلام فقد احتكرت بيد الدولة، وبات دور الإعلام مقتصرا على تمجيد السلطة في كل ما يكتب ويذاع ويعرض تحت طائلة المسؤولية، فأحجمت وسائل الإعلام المختلفة عن الإشارة من قريب أو بعيد إلى الأخطاء، على أساس أن كل ما ينشر عنها قد يسيء إلى سمعة الوطن خارجياً، وكل هذا ساهم وساعد الحكومات المتعاقبة على إصدار قوانين ذات طابع نفعي، تأخذ بعين الاعتبار مصالح كبار المتنفذين، وفي بعض الأحيان تصدر قوانين مخالفة للدستور المعطل أصلاً، على سبيل المثال القانون 10 وتعديلاته، الذي سمح للمستثمرين العرب والأجانب أن يتملكوا العقارات، وقانون العمل الأخير الذي أعطى لأصحاب العمل الحق بطرد العامل من عمله دون أي سبب.

انتشار الفساد وضياع مبدأ تكافؤ الفرص

 

بعد وصول حزب البعث العربي الاشتراكي إلى السلطة في الثامن من آذار عام 1963، واصل التأميمات التي تمت في عهد الوحدة السورية المصرية، وقام بتنفيذ وتأسيس معامل وشركات حكومية، أصبحت تشكل لاحقا ما يسمى بالقطاع العام، وتنامى هذا القطاع وتوسع حتى التسعينيات من القرن الماضي، لكن الفساد استشرى في هياكله كلها بما فيها هياكل الدولة، هذا الفساد الذي لم يكن واضحا للعيان بفضل المساعدات المالية العربية التي توقفت في التسعينيات، لكن سرعان ما أصبح الفساد ينهب ما بين 20% إلى 40% من الدخل الوطني، وتحول القطاع العام من قاطرة النمو في سورية إلى قطاع خاسر، ورغم كل النهب الذي تم فيه، ظل يمد الخزينة بعشرات المليارات سنوياً، وبفضل الحكومة الحالية وسياسة فريقها الاقتصادي ذي الاتجاه الليبرالي، والتي أحجمت منذ عدة سنوات عن دعمه وضخ الاستثمارات الضرورية لبقائه وإعادة العافية له عبر قطع دابر الفساد فيه، أخذ يتهاوى!! وهاهم الليبراليون الجدد يتهيؤون لخصخصته والتخلص منه بأبخس الإثمان (لغاية في نفس يعقوب). وهكذا ابتدأ الفساد والنهب بالموظفين الكبار. وتلازم هذا الفساد بانتشار ما يسمى بثقافة الفساد، فمن يخالف السير يستطيع برشوة صغيرة أن يتهرب من المخالفة، وأصبحت الإكرامية مفروضة عرفاً لموظفي الهاتف والكهرباء والمياه، وشرطاً لإنجاز المعاملات بسرعة، وانتشرت الواسطات والمحسوبيات وساعدت على التهرب الضريبي، وتمرير مخالفات البناء والاستيلاء على الأراضي والعقارات بأثمان بخسة تحت شعار «المصلحة والمنفعة العامة»، وأصبحت قضية إساءة استعمال السلطة ومخالفة الأنظمة والقوانين جهاراً أمراً عادياً، بل أصبح المتنفذون يُعرَفون من خلال قدرتهم على ارتكاب مثل هذه المخالفات العلنية، والتي يمسح من الوجود إذا كان من قام بها شخصا من عامة الشعب، حتى ولو كان أكاديمياً أو عضوا في البرلمان أو قاضياً، بل وحتى لو كان وزيرا، أما مبدأ تكافؤ الفرص فقد ضاع وذاب وأصبح من الماضي، وأما التعيين في الوظائف العادية فيحتاج قطعا إلى الواسطة والمحسوبيات والى الرشوة في أغلب الأحيان.

انعدام المحاسبة

 

لقد تمكنت كل الحكومات السابقة، من الافلات والهروب من تقييم الأداء والمحاسبة الجدية عند وجود التقصير، الذي لم يكن موجودا فقط، بل إن التقصير في الأداء كان واضحا وجلياً، وكل حكومة تذهب تأتي بعدها حكومة أكثر ضعفا في أدائها، والحكومة الحالية مثال فاقع على ذلك، فبعد فشلها فشلا ذريعا في تنفيذ الخطة الخمسية العاشرة، هاهي تبدأ بتنفيذ الخطة الخمسية الحادية عشرة بالعقلية نفسها وبالأدوات نفسها، والتي تُنبأ أن نتائجها ستتطابق مع نتائج الخطة السابقة إن لم تكن أسوأ، أما المحافظون الذين يمثلون رئيس الجمهورية في وظيفتهم، والذين يعينون بمرسوم جمهوري، وربما مع وجود بعض الاستثناءات، كانوا الأكثر فسادا ونهبا للمال العام، بل إنهم كما يقول المثل العامي (شريك النصف)، ومع ذلك أفلتوا من المحاسبة والعقاب، وكنزوا الثروات من جيوب الشعب الفقير.

تحجيم القوى والأحزاب

وانعدام الحريات الديمقراطية

 

لقد تمكن حزب البعث من إنشاء جبهة من الأحزاب الموجودة على الساحة السورية سميت بالجبهة الوطنية التقدمية، لكن مشاركة هذه الأحزاب في بعض مراكز السلطة مع الامتيازات التي نالتها نتيجة مشاركتها، شل عملها الجماهيري وأبعدها عن الشارع السياسي، وجعلها في تبعية كاملة للسلطة السياسية، ومما زاد في تذويبها، ضعف الحريات السياسية بسبب حالة الطوارئ، وأصبحت تعمل على هامش الحياة السياسية أي على الهامش الديمقراطي المعطى لها، وكل حزب كان معرضا للتضييقات إن تجرأ وانتقد أكثر من اللازم، بما فيها منعه من الترشح لانتخابات مجالس الشعب والإدارة المحلية وغيرها ،إضافة إلى منع  أعضائه من السفر.

تدني المنظومة الأخلاقية في المجتمع

 إن أخلاق أي مجتمع تتحدد بأخلاق الطبقة السائدة فيه، وكانت البرجوازية الطفيلية التي تحالفت فيما بعد مع البرجوازية البيروقراطية هي الطبقة السائدة، والتي فرضت أخلاقها على المجتمع السوري، وباعتبار أن مصالحها ترتبط ارتباطا وثيقا بالخارج الامبريالي، وانعدام ولائها للوطن، انتشرت العقلية الاستهلاكية على عقلية الإنتاج، وضعف الوازع الأخلاقي بين الناس، وأصبح المواطنون يعيشون في غربة تامة ضمن وطنهم، وتفككت العادات والتقاليد الجميلة بين الناس، كالصدق والكرم والصفح والاعتذار، والاهتمام بقضايا الوطن والسعي لتطويره، وساد الاتكال وانخفضت إنتاجية الأداء، وأصبح الناس يعيشون على أساس (الحيط الحيط.. ويا رب السترة)،

تعطيل الدستور

وهي تعتبر النتيجة الأسوأ بسبب طول الفترة الزمنية التي فرضت حالة الطوارئ فيها لأكثر من نصف قرن!!!.

أخيرا إن الحديث عن قانون الطوارئ ونتائجه الكارثية على المواطنين والأحزاب السياسية والمجتمع السوري، حديث يطول، ولكن علينا أن لا ننساها نحن السوريين، بل ويجب علينا منع فرضها خارج الحالات التي استحدث لأجلها ولمدة محددة، وإن هذا الموقف يعتبر موقفا وطنيا من الدرجة الممتازة، لا يجوز أن نتخلى عنه بأي شكل من الأشكال، وتحت أي ظرف من الظروف ،حفاظا على كرامة الوطن والمواطن.