الانعكاسات الاجتماعية للسياسات الاقتصادية الليبرالية.. أمن الوطن واستقراره على المحك!
تعتمد درجة استقرار مجتمع ما وتطوره بالدرجة الأولى على درجة إشباع الحاجات المادية والمعنوية لسكانه، ومدى شعور مواطنيه بالكرامة والعدل والحرية.
في سورية تزامنت شعارات الإصلاح والتحديث مع تراجع دور الدولة الرعائي والتدخلي لمصلحة قوى السوق، والتراجع عن مكتسبات القطاع العام لمصلحة قوى الفساد وأصحاب النفوذ، بخصخصة مؤسساته الرابحة منها والمخسرة، وكذلك تحولها إلى دولة ريعية غير قادرة على التحكم بالعمليات الإنتاجية، بل واتبعت بالإضافة إلى ذلك سياسات وضعت العراقيل أمام القطاعات الإنتاجية، حيث تراجع القطاع الزراعي مع ارتفاع تكاليف أسعار الوقود والسماد والبذار، وكذلك تعثر القطاع الصناعي وانخفضت إيراداته اللازمة لتمويل مستلزمات الإنتاج وبالتالي تجميد للأجور وازدياد البطالة.
أدت هذه الممارسات إلى انخفاض مستويات المعيشة وارتفاع معدلات البطالة، حيث أصبح 30% من المواطنين السوريين أي ما يقارب 5.5 مليون شخص يعيشون تحت خط الفقر، ووصل معدل البطالة إلى ما يقارب 30%، مما يستدعي النظر جدياً في تأثير هذه السياسات على التكوين النفسي والسلوكي لهذه الشرائح المتضررة اقتصادياً وبشكل كبير، ويطرح التساؤل عن مدى قدرتهم على حماية الوطن والحفاظ على استقراره مع اشتداد الأزمات والتحديات.
المستوى المعيشي للأسرة السورية وانعكاسه على التربية:
إن الحد الأدنى لإنفاق الأسرة الفعلي الضروري على الحاجات الغذائية فقط، دون باقي الاحتياجات الأخرى، يبلغ 13155 ل.س، وهي قيمة 150 وجبة فردية موزعة على مدى 30 يوماً، لأسرة مكونة من 5 أشخاص (أي خمس وجبات للأسرة يومياً)، هذه الوجبة الأساسية للفرد التي صاغها مؤتمر الإبداع والاعتماد على الذات للاتحاد العام لنقابات العمال عام 1987، والتي من خلالها يحصل الفرد على السعرات الحرارية الكافية والضرورية التي تكفل له الحياة وإعادة إنتاج قوة عمله من جديد، وبحسب المكتب المركزي للإحصاء فإن متوسط الأجر الشهري العام للعاملين في القطاع العام والخاص هو 10,613 آلاف ليرة سورية، ومع وجود نفقات أخرى ضرورية لا تقل أهمية كالماء والكهرباء والمواصلات والاتصالات...الخ.
يبقى لنا أن نسأل كيف سيستطيع معيل الأسرة توفير التمويل اللازم لتربية أولاده تربية قادرة على تنمية مواهبهم وقدراتهم، وكذلك تلبية حاجاتهم الضرورية من التعليم والتثقيف والترفيه، بالشكل الذي تفرضه متطلبات العصر، والذي تزداد نفقاته يوماً بعد يوم مع استمرار السياسات الليبرالية؟
إن وجود حاجات روحية ملحة غير مشبعة سيزيد من حالات الشعور بالنقصان، وسيدفع الأبوين للشعور الدائم بالتوتر بسبب عدم قدرتهم على توفير حاجات أولادهم، وبالتالي ستنعكس آثاره في الفشل بتربية الأولاد وانعدام التفكير المشترك وضعف الألفة والود بين أفراد الأسرة والذي ستنعكس آثاره على المجتمع، فالشخص الذي لم تشبع رغباته واحتياجاته المادية والروحية كيف له أن يعبر عن عاطفة؟ ومن أين يكون لديه الوقت الكافي للحوار والتفاهم مع أفراد أسرته؟ وشبح الفقر يطارده ويزيد من همومه، وغلاء الأسعار يلاحقه، وضغوطه المادية تزداد لحظة بعد لحظة.
ومن جهة أخرى ازدادت معدلات البطالة، فقد استطاعت الحكومة السورية أن تؤمن خلال الخطة الخمسية العاشرة حوالي 140 ألف فرصة عمل وسطيا فقط خلال كل عام، في الوقت الذي يدخل فيه إلى سوق العمل سنوياً حوالي 300 ألف شخص .
هذه الظاهرة الخطيرة التي تتركز في أوساط الشباب الذين تقل أعمارهم عن 34 سنة تشكل بيئة خصبة للانحراف والجريمة، مع استمرار شعورهم بالتهميش و الحرمان.
عمالة الأطفال، المخدرات، الجريمة و الدعارة:
بسبب الفقر المدقع لأكثر من ثلث السكان في سورية، وبسبب الحاجة لتأمين المتطلبات التي لم تستطع البرامج الاقتصادية والإنمائية تأمينها، فقد انتشرت وتوسعت هذه الظواهر الاجتماعية الخطيرة.
وكانت الإحصاءات الرسمية قد أشارت إلى أن:
-عدد المدمنين في سورية على المخدرات 2799 مدمناً، ولكن هذا الرقم قليل جداً عن العدد الحقيقي، فالحقن المخدرة تنتشر أكثر فأكثر بين صفوف الشباب، ويزداد توزيعها يوماً بعد يوم في مختلف المناطق، وخصوصاً في الجامعات وتتراوح أعمار المدمنين بين 15 ـ 40 عاماً.
-ارتفعت مؤشرات القتل العمد والسرقة بالإكراه، التي زادت بنسبة 400% منذ عام 2000 وحتى 2007، إلى جانب ارتفاع مؤشر سرقة السيارات، الذي زادت بنسبة 200% في الفترة نفسها.
في دمشق أكثر من 40 ألف دار دعارة، بعضها سري ومعظمها علني معروف للعامة، يوجد في دمشق وحدها حوالي 200 ملهى ومرقص، وكل منها يحوي على الأقل 20 راقصة، أي ما مجموعة 4000 راقصة تقريباً.
وتشير الإحصائيات إلى أن هناك حوالي 600 ألف طفل يقومون بأعمال قاسية، وضمن شروط غير صحية وغير إنسانية، ولمدة ساعات طويلة وبأجور منخفضة،. ووفقاً لمنظمة الفاو فإن الأطفال العاملين في مجال الزراعة يمثلون 70% من إجمالي عمالة الأطفال.
لا يخفى على أحد مدى خطورة هذه الظواهر الاجتماعية التي تؤدي إلى الشعور المستمر بالنقص وعدم الرضا للمتضررين منها، وكذلك تؤدي إلى هدر الكثير من الموارد البشرية والمالية، وتقوض دعائم تماسك المجتمع ووحدته، وبالتالي حصانته الداخلية.
لذلك يجب العمل سريعاً على حل هذه المشكلات الاجتماعية الخطيرة، وهذا يتطلب بناء نموذج اقتصادي بديل قادر على رفع مستوى معيشة المواطنين ضماناً لشعورهم بالأمن والاستقرار وبالتالي الحفاظ على أمن الوطن واستقراره.. ولا نعلم على وجه الدقة إن كان الوقت قد فات على القيام بذلك أم لا؟