حزب البعث العربي الإشتراكي.. إلى أين؟
تضع الأزمة التي تعصف بالبلاد كل الفضاء السياسي القديم على بساط البحث، ونقصد بالفضاء السياسي القديم عملياً الحركة السياسية التقليدية الممثلة بإطار الجبهة الوطنية التقدمية، التي مثلت افتراضياً إئتلافاً حكم البلاد على مدى العقود الأربعة الماضية، استند هذا الإئتلاف حقوقياً على المادة الثامنة من الدستور القديم، التي تنص على أن حزب البعث هو حزب قائد للدولة والمجتمع، اليوم وحيث هناك واقع موضوعي يستدعي التغيير عبر عنه ظهور الحركة الشعبية خارج الإطر السياسية والتنظيمية والحقوقية لجهاز الدولة وللحركة السياسية أيضاً، الأمر الذي فرض ضرورة مناقشة وضع تلك القوى السياسية اللاحق، ودورها المتوقع في الفضاء السياسي الجديد، وعلى رأسها حزب البعث العربي الإشتراكي..
لايمكن قراءة تاريخ حزب البعث إلا بالنظر إلى علاقته بجهاز الدولة، وبأحزاب الجبهة الوطنية التقدمية، وبالمادة الثامنة من الدستور السابق، فهذه العناصر بمجملها مثلت جوانب المرحلة السابقة السياسية والطبقية والحقوقية..
إذا انطلقنا من أن مفهوم الحزب السياسي يتحدد من خلال دوره الوظيفي أي من خلال امتلاكه برنامجاً اقتصادياً- اجتماعياً سياسياً وطنياً، واضحاً ومحدداً الاتجاه ووفق آجال زمنية محددة، يمثل مصالح طبقة اجتماعية محددة، فيمكننا القول بأن حزب البعث قبيل وبعيد وصوله إلى السلطة في عام1963، مثل مكوناً هاماً في الحركة السياسية السورية آنذاك، لأن برنامجه العملي انصب في تلك المرحلة على تمثيل البرجوازية الصغيرة السورية، سواء المدينية أو الفلاحين في الريف، وانجاز المهام التي تحقق مصلحة هذه الطبقة، كالإصلاح الزراعي والتأميمات و بعض المكاسب المقدمة للطبقة العاملة في سورية، مما أكسب الحزب في حينه وزنا في صفوف من مثلهم من البرجوازية الصغيرة بمساحاتها الواسعة..
في مرحلة وجود حزب البعث في السلطة كان دوره ووزنه الجماهيريان يخبوان بإطراد مع درجة الاندماج مع جهاز الدولة، وبتعبير أدق درجة«ابتلاع» جهاز الدولة للدور الوظيفي للحزب في تمثيل قاعدته الاجتماعية- البرجوازية الصغيرة- من خلال برامجه الملموسة ونضالاته باتجاه تحقيقها، تم تثبيت هذا الميل من خلال مسألتين أساسيتين لعبتا دوراً حاسماً فيما يتعلق بالحياة السياسية اللاحقة في البلاد، الأولى: هي المادة الثامنة من الدستور، الثانية: هي تحالف الجبهة الوطنية التقدمية الذي مثل تعددية ما، كانت مطلوبة في حينها إلا أنها في ظل المادة الثامنة أصبحت قاصرة ولا تعكس الوزن الشعبي والرقابة الشعبية على جهاز الدولة إلا قليلاً..
يعتقد الكثيرون أن المادة الثامنة في الدستور القديم كانت مكسباً لحزب البعث وأن الخاسر الأكبر كان بقية الحركة السياسية أو أحزاب الجبهة الأخرى، بينما حقيقة الأمر أن الخاسر الأكبر كان حزب البعث بتخليه عن موقعه بين الجماهير، لمصلحة موقعه بجهاز الدولة، فلا يحتاج أي حزب كان إلى مادة دستورية تبقيه في صدارة الحياة السياسية في البلاد بقدر حاجته إلى وزن حقيقي في المجتمع..
إذا كان جهاز الدولة يمثل حالة فوق الطبقات الاجتماعية، وينظم صراعها، ويضمن توزيع ثروة محدد، واذا كان جهاز الدولة قد ابتلع الدور الوظيفي لحزب البعث فماذا تبقى من الحزب اليوم؟
إن النمو الانفجاري، غير المتناسق، في العضوية والانتسابات للحزب، لم يكن عملياً انتسابات للحزب بقدر ما كانت انتسابات للسلطة التي يتمتع بها هذا الحزب، وما كان هذا التضخم في عدد وعديد الحزب إلا مرافقاً لتضخم جهاز الدولة، أي يمكن القول في نهاية المطاف بأنه لم يتبق من الحزب إلا السلطة، وخصوصاً بعد تغير التركيبة الطبقية وتبلور شريحة البرجوازية البيروقراطية من رحم جهاز الدولة التي عملت على خطف الحزب من قاعدته الاجتماعية، ولاحقا ميل أجزاء منها إلى التحول من النهب غير المشروع في جهاز الدولة إلى النهب المشرعن في سوق تحت مسمى رجال أعمال واستثمارات، وهذا سر إختلال التوازن في العقد الأخير بين جهاز الدولة والمجتمع عبر تبني الليبرالية الاقتصادية...
اليوم إذا أراد حزب البعث أن يكون حقيقياً وأن ينبعث من داخل العملاق الخلبي المسمى حزب بعث فعليه التخلي عن كل الزوائد التي علقت به خلال وجوده في السلطة أي عن حتى 80% من عضويته، أما مقياس كونه حقيقياً يرتبط أشد الإرتباط في كونه يمتلك برنامجاً سياسيا واقتصاديا- اجتماعياً يمثل قاعدته الاجتماعية، ومقياس كونه وهمياً فهو في كونه خيمة كبيرة تدعي تمثيل الجميع، بينما هي في الحقيقة بدأت تتصدع وتهدد بالسقوط فوق قاطنيها..