التعددية السياسية.. حبل مشدود بين أطراف الأزمة
نَصَّ البند الأول في المادة الثامنة من الدستور السوري الجديد على أن ‹‹ يقوم النظام السياسي للدولة على مبدأ التعددية السياسية وتتم ممارسة السلطة ديمقراطياً عبر الاقتراع ››. وقبل التساؤل عن ماهية هذه التعددية، ينبغي أن نحاول فهم السبب الذي تنبع منه قبل كلّ شيء الضرورة والحاجة إلى وجودها الحقيقي في البلاد، ليس فقط من باب ضرورة نفي الحالة السابقة من الأنانية السياسية الخاملة، التي يجب أن يُساءل ويحاسب أصحابها عن مساهمتهم في ما حلّ بالبلاد من أزمات في جميع مناحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، بل وكذلك من باب التأكيد على أنّه بات من المستحيل الخروج الآمن من الأزمة الراهنة دون تفعيل الحياة السياسية التعددية على أسس وطنية، وهي المسؤولية التي يجب أن تضطلع بها جميع القوى الوطنية الواعية مهما كان تصنيفها الشكلي موالياًٍ أو معارضاً،
قد تساور البعض، رغم رفضه للأحادية، شكوك مشروعة حول ممارسة التعددية السياسية، قياساً على التجربة الغربية الأوروبية والأمريكية في القرن العشرين، والتي لم تتعد كونها تغيير أقنعة تجميلياً لديكتاتورية الطبقة البرجوازية الكبيرة المهيمنة، والمستأثرة بثروات شعوبها، والناهبة لثروات شعوب البلدان التي تستعمرها بشكل مباشر أو غير مباشر. لكن في الوقت نفسه يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار الملاحظات التاريخية التالية:
أولاً_ نشأت التعددية السياسية تاريخياً بوصفها شكلاً لديمقراطية البرجوازية الصاعدة، كحالة تقدمية سمحت بتطور نظامها الرأسمالي وقواه المنتجة، فتجاوزت محدودية علاقات الإنتاج الإقطاعية وأطاحت بهرمها السياسي الأحادي المتمركز حول الانفراد بالحكم من جانب الكنيسة أو المَلك أو القيصر، وهذا ما تمثّل له ثورة 1789الفرنسية، وثورة 1905 الروسية بوصفهما ثورتين ديمقراطيتين برجوازيتين.
ثانياً_ النقلات الثورية التقدمية في حياة المجتمعات كانت تترافق مع فعالية عالية لعدد من الأحزاب السياسية، عندما تكون تلك الأحزاب فعّالة وظيفياً بحيث تعكس في المستوى السياسي، الذي هو أنضج مستويات الحراك المجتمعي، الصراع الطبقي المحتدم في المجتمع، والذي تنخرط فيه جميع الجماهير بنشاط شديد.
ثالثاً_ فترات الاستقرار النسبي والتطور التدريجي في حياة المجتمعات، وكانت تترافق مع سيطرة إحدى القوى السياسية - أو عدد قليل من القوى - والتي تمثل أكبر المنتصرين في مرحلة النقلة الثورية، بوصفها أكثر من نجح في التعبير الوظيفي عن مصلحة الطبقة الاجتماعية الظافرة في تلك المرحلة، ومثال ذلك الحكم العسكري لنابليون، بوصفه المعبر عن الطموح الاستعماري للبرجوازية الكبرى في فرنسا، وحكم الحزب البلشفي في روسيا كمعبر عن ديكتاتورية البروليتاريا.
التعددية السياسية ومرحلة الأزمة الرأسمالية العظمى:
حتى نفهم موقف القوى الداخلية والخارجية من التعددية السياسية في المرحلة الحالية، يجب أن ننطلق من الطبيعة الخاصّة المميزة لهذه المرحلة، أي من كونها مرحلة الأزمة العظمى للرأسمالية، وتداعياتها على دول العالم، والتي هي السبب الاقتصادي-الاجتماعي الأساسي والعميق لكلّ ما يشهده العالم أجمع من تغييرات وانتفاضات للشعوب، تفتح الأفق التاريخي أمامها نحو تغيير جذري ذي أفق اشتراكي.
موقف القوى الإمبريالية:
وإذا صحّ أن نستنتج من الملاحظات التاريخية السابقة بأنّ التعددية السياسية الفعّالة كانت دائماً الشكل الذي يتخذه الحراك السياسي في المجتمعات في فترات الأزمات الثورية، والتي تشهد صراعاً بين مكوناتها السياسية يتمخض عنه ولادة فضاء سياسي جديد وموت الفضاء السياسي القديم، فإنّ الأزمة الحالية تفترض أنّ الحلّ التقدمي لها لا بدّ أن يمرّ عبر تغييرات سياسية عميقة نحو فضاء سياسي جديد سمته العامة المشتركة مع كلّ فضاء سياسي جديد تاريخياً هو التعددية، ولكنّ سمته الخاصة بالمرحلة هي أنّه ستتمثّل فيه بشكل بارز القوى السياسية التي تعبر وظيفياً عن القوى الطبقية الاجتماعية الصاعدة، أي قطب الشعوب الفقيرة والكادحة عموماً بفئاتها العمالية و الفلاحية وأنصارها من النخب الثورية، وربما يكون ميزان القوى في التعددية السياسية الجديدة مشابهاً له عشية ثورة أوكتوبر الاشتراكية العظمى 1917، ولكن الفرق أنّ التغيير في المرحلة الراهنة سيكون على مستوى عالمي شامل، وفي ظلّ الاستنفاد التامّ لخيارات الرأسمالية في تحقيق أية انتصارات لمصلحة طبقتها عبر صراعات سياسية ‹‹نزيهة وعادلة›› إذا صح التعبير، أي عبر إحراز مكاسب بطرق سلمية، وهذا ما يجعلنا نفهم ونتوقع الموقف الحالي للقوى الإمبريالية الكبرى من التعددية السياسية، ففي مصر وتونس وليبيا نجحت في التحكم بالعملية السياسية بحيث تستعيض عن دماها الديكتاتورية السابقة، بقوى رجعية مرتبطة بها تستأثر بالسلطة، كجماعات الإسلام السياسي الليبرالي. أمّا في سورية، فبسبب عوامل داخلية تتعلّق بوجود تقاليد وطنية ومقاومة شرسة لدى الشعب السوري معادية للإمبريالية والصهيونية والقوى الرجعية المرتبطة بها حتى لو تدثرت بعباءات دينية، وبسبب التوازن الدولي الجديد مع الدور الروسي-الصيني الصاعد، فإنّ خيار تلك القوى هو إجهاض أي عملية سياسية من أساسها، لأنّ عملية سياسية من هذا القبيل لو تمّت في الظروف السورية المتميزة بوجود معارضة وطنية واضحة كحدّ السيف في عدائها لأي تدخل خارجي، وبالتعاون مع القوى الوطنية الأخرى في الدولة والمجتمع، ستفرز فضاء سياسياً جديداً يفتح الطريق أمام سورية جديدة وديمقراطية وقوية ومستقلة.
موقف قوى الفساد الكبير الداخلي:
في القرن السابع عشر عاش عالم رياضي فرنسي كبير اسمه بيير دي فيرمات، وقد وضع نظرية تقول بأنّ العمليات في الطبيعة تجري بشكل اقتصادي، أي بحيث تستغرق أقصر زمن ممكن، أو أقل جهد ممكن. على ما يبدو أنّ هذا القانون يسري ما يشبهه في المجتمع، وتحاول قواه المختلفة تحقيق مصالحها بأقلّ جهد وتكلفة ممكنة. إنّ تطبيق هذا المبدأ على قوى الفساد الكبير في سورية، يجعلنا نستنتج بأنّ من الأسهل لها أن تستمرّ في ممارسة نهبها عبر ممثليها في أجهزة الدولة المختلفة، فإذا سادت في سورية تعددية سياسية صريحة قائمة على منافسة نزيهة بين أحزاب سياسية مستقلة عن أجهزة الدولة، وتعتمد على قواها الذاتية، وتسعى للحصول على دعم الفئات الاجتماعية التي تمثّلها، وتقوم بإعلان وتنفيذ برامج علنية وواضحة، فإنّ قوى الفساد تعلم أنّها ستكون الخاسرة في هكذا عملية، حتى لو زجت بأحزاب سياسية تمثلها ضمن هذه التعددية، وهذا الأمر يصحّ في هذا الوقت بالذات أكثر من أي زمان آخر، بسبب عودة النشاط السياسي العالي غير المسبوق للجماهير، وحساسيتها العالية والمستعجلة لسلوك الأحزاب السياسية. ومن هنا نتبيّن أن قوى الفساد الكبير الداخلي هي مثل القوى الإمبريالية-الصهيونية المرتبطة بها، معادية لأي تعددية سياسية حقيقية.
إنّ تجربة الانتخابات البرلمانية الأخيرة التي ذبحها التزوير، العلني منه والسري، والذي كُسّرت فيها عظام دستورنا رغم أنّه ولد وهو يصرخ بوضوح ‹‹لا يجوز تسخير الوظيفة العامة أو المال العام لمصلحة سياسية أو حزبية أوانتخابية››، إنّ هذه التجربة تطلق جرس الإنذار حول خطورة استمرار نهج الأحادية السياسية والإقصاء الذي تصرّ عليه هذه القوى المحددة والمعروفة داخل النظام والمجتمع إما بسبب قصر نظر بعضها وعدم إدراكه العواقب الخطيرة لسلوك كهذا، أو بسبب ارتباط بعضها الآخر بحيتان الفساد الكبير وأجهزته القمعية وحتى بالقوى المشبوهة بارتهانها للعدو الأمريكي-الصهيوني وعملائه. لكنّ هؤلاء عندهم من التحجّر والصّلف ما لن ينفعهم سوى لصنع شاهدةٍ لقبر فضائهم السياسي القديم.
موقف القوى الوطنية:
لا نحتاج كلاماً كثيراً لنؤكد على أنّ أصحاب المصلحة في تعددية سياسية وديمقراطية حقيقية، تعبّر فيها القوى السياسية المشتركة بها علناً عن برامجها وتدخل منافسة نزيهة مستقلة عن تأثيرات أجهزة الدولة وقوى المال، هي القوى الشريفة في الدولة والمجتمع والحركة الشعبية السلمية، من أبناء الشعب، وقواه وفعالياته ونخبه وشخصياته الوطنية المختلفة، والتي تسعى إلى التغيير الجذري والسلمي سياسياً واقتصادياً وديمقراطياً. هؤلاء هم من سينفخ الروح في الفضاء السياسي الجديد لسورية.