حركة المتغيرات كممر ممكن للشرق العظيم
خالد عليوي خالد عليوي

حركة المتغيرات كممر ممكن للشرق العظيم

منذ توقيع معاهدة لندن عام /1840م/، والتي وضعت حداً لطموحات محمد علي التوسعية والنهضوية بدأت مرحلة جديدة تميزت بالتدخلات الاستعمارية المتزايدة والمباشرة، والتي توجت بالمحاولات المستمرة للهيمنة على دول ومقدرات المنطقة، بدءاً من اتفاقية سايكس بيكو، ومروراً بوعد بلفور، وإعلان قيام الكيان الصهيوني، والتبعية مروراً بتكريس التبادل اللامتكافىء، ثم الاحتلال الأمريكي للعراق، ومشروع الفوضى الخلاقة. 

محاولات الهيمنة المستمرة، المباشرة وغير المباشرة، أدت إلى نشوء وضع جديد في المنطقة لا تراعى فيه مصالح الشعوب، وهو ما سيفرز تغيرات مرتقبة، لأن كل مرحلة تاريخية تحمل نقيضها وعوامل تحللها وسقوطها، من خلال تفاعل المتغيرات مع الزمن الذي يسرع أو يؤخر عملية ظهور النقيض. 

المتغير المؤثر والمتغير المتأثر 

هناك علاقة جدلية بين متغيرين تتصف بأنها في حالة صيرورة وحركية مستمرة، يعبر عن الأول بـ (المتغير المؤثر أو المستقل)، والمتمثل بالمتغيرات العالمية الجذرية والمتسارعة والتي لم تحدث كامل تغيراتها بعد، أما الثاني فيعبر عنه بـ (المتغير المتأثر أو التابع)، ويتجسد بمشروع (الشرق العظيم) الذي لم يقم بعد، ولكنه ينطوي على توقعات واحتمالات ورؤى، وترجع جذور العلاقة بين المتغيرين إلى التسوية التاريخية المفروضة على المنطقة، وفي خضم المرحلة الراهنة من تطور النظام العالمي والذي يمر بمرحلة يتداعى خلالها النظام العالمي القديم ويتبلور نظام جديد، فإن شعوب منطقة شرق المتوسط تمر بكل آلام المخاض والولادة، بما تحمله من إرهاصات ترسم مساراً واقعياً وممكناً لمشروع الشرق العظيم من خلال حركة المتغيرات والتي تتجسد في:

• التراجع الأمريكي المستمر منذ عام 2002 نتيجة للأزمة الرأسمالية المركبة، والتي دفعت أمريكا لشن سلسلة من «الحروب على الإرهاب»، وتزايد هذا التراجع مع انفجار الأزمة بطورها المالي عام 2008، وتبلور هذا التراجع عبر محاولة واشنطن وحلفائها الدوليين والإقليميين وقف هذا التراجع عن طريق إشعال الحروب البينية الداخلية في شرق المتوسط بأدوات فاشية. 

• ظهور أقطاب دولية جديدة مثل «منظومة بريكس» وخاصة روسيا والصين كقوة اقتصادية سريعة النمو، وانتشارها في الأسواق العالمية، مع إدارة صراع اقتصادي مع الولايات المتحدة. 

• تثبيت حالة من التوازن الدولي الجديد بين المنظومة الغربية من جهة، وبين منظومة «بريكس» وحلفائها من جهة أخرى، هذا التوازن الذي غدا أمراً واقعاً منذ عام 2008، والذي بدأت إرهاصاته عام 2007 عبر استخدام الفيتو المزدوج الروسي ـ الصيني في مجلس الأمن ضد مشروع قرار دولي حول بورما، تلاه فيتو مزدوج آخر عام 2008 ضد مشروع قرار يتعلق بزيمبابوي، وصولاً لاستخدام الفيتو المزدوج في وجه مشاريع قرارات ضد سورية وأوكرانيا، وترجمة التوازن إقليمياً مع تسارع العلاقات الروسية ـ المصرية، والروسية ـ العراقية، والضربات الجوية الروسية في سورية ضد المنظمات الإرهابية. 

• صعود تحالف قوى اليسار في اليونان واسبانيا، وبغض النظر عن بنية هذه القوى، فإن صعودها ينطوي على معاني ودلالات كبيرة، إضافة إلى صعود القوى الاشتراكية في معظم دول أمريكا اللاتينية، فصعود هذا النوع من التحالفات يعكس نظرياً أحد أمرين: فإما أنّ مكوناته هي مكونات ثورية جدّية تتلقف مرحلة الصعود الشعبي العام المؤسسة على أزمة النظام الرأسمالي، وفي حال لم تكن كذلك فإنها محاولة استباق على القوى الجذرية، وفي كلا الحالين فإنّ حقيقة الصعود الشعبي والأزمة الرأسمالية تبقى في جذرهما.

• تداعيات الثورة التقنية أو ما يسمى بـ (الموجه الثالثة)، وما يتولد عنها من تغيرات كبيرة في الهياكل الاقتصادية، وفي القنوات التمويلية، وفي نظم الإدارة، وأدوات السيطرة والتحكم.

• الهزائم المتوالية للمشروع الصهيوني، بدءاً من الانسحاب المذل من جنوب لبنان عام 2000، ومروراً بهزيمة تموز عام 2006، إلى سلسلة حروبه الفاشلة ضد قطاع غزة أعوام (2008 – 2012 – 2014). 

• توقيع الاتفاق النووي الإيراني مع دول (5 + 1) بما يحمله من تداعيات دولية، واحتمال حصول متغيرات إقليمية ترسم قواعد جديدة في العلاقات الدولية على قاعدة التعاون لحل أزمات المنطقة، ويمكن اعتبار التحالف الرباعي (الروسي ـ الإيراني ـ العراقي ـ السوري) تحالفاً في السياق «التعاوني» نفسه، ومع كونه تحالفاً ظرفياً لمواجهة الإرهاب، لكن يمكن تطويره مستقبلاً ليضم دولاً أخرى ويتحول إلى منظومة أمنية تؤمن القاعدة الضرورية لحماية شعوب المنطقة، والتحرر من إيقاع التهديدات الخارجية، وتعزيز قدرات الدفاع الذاتي عن الوجود بناءً على توفر قاعدة علمية تقنية متطورة، وأعتدة معلوماتية تساهم في التطور الاقتصادي والعلمي. 

• تزايد المخاطر الأمنية الإقليمية لتتصدرها قضيتا المياه والإرهاب، واللتان توظفهما الولايات المتحدة وحلفاؤها لتقييد إرادة دول المنطقة، وتهديدها بالتقسيم والتفتيت وتبديد مواردها. 

• توسع إمكانات تعزيز الفضاء الجيوسياسي لشعوب المنطقة بسبب درجة الارتباط المتبادل بينها، ووجود كم كبير من القضايا المشتركة وعلى رأسها الإرهاب والمياه والتنمية والبيئة. 

• الإدراك المتزايد لشعوب المنطقة باستفحال الأزمة الراهنة وتعقدها، وبالتالي ارتفاع منسوب الحراك الشعبي وتوالي موجاته المطالبة بالتغير السلمي الجذري، وتلاقي هذا الحراك مع الهبة الشعبية في فلسطين والمرشحة للتحول إلى انتفاضة ثالثة.. هذه الهبة الناجمة عن انسداد الأفق أمام منطق «التسوية الشاملة» للصراع وفشل الفضاء القديم الإقليمي والدولي بتقديم حلول عادلة للقضية الفلسطينية. 

• فشل مشروع الإخوان المسلمين في المنطقة، وخصوصاً في مصر وتونس، وتراجعه النسبي في تركيا. 

• تحول العنف والعنف المضاد إلى بنية تحتية معقدة، ورافعة لاجتذاب ضحايا جدد من المهمشين واليائسين، مما يفرض على دول المنطقة تحديات كبيرة تستدعي منها الاستجابة المناسبة. 

ومع الأخذ بالاعتبار الطبيعة المرحلية للنظام الدولي القائم حالياً، لذلك لابد من التأكيد الحاسم بأن جملة المتغيرات الدولية والإقليمية ستتمخض عن ولادة نظام دولي جديد. 

 تحديد نقطة الانطلاق 

لا يمكن تحديد نقطة الانطلاق إلا من خلال جدلية واسعة وعميقة، تتضمن فهم عناصر القدرات الذاتية في تفاعلها مع الواقع الموضوعي محلياً وإقليمياً ودولياً وفي نقطة تشابكها مع حركة المتغيرات، مع مقاربة جديدة لواقع كيانات سايكس بيكو مؤسسة على قراءة صحيحة يرتسم مسارها ما بين وعيها الدقيق للأمر الواقع وقوانينه وآليات فعله، وصولاً إلى تجاوزه بإحلال آليات أخرى تمكنه من خلق الفضاء الجديد الصاعد، بالاستناد إلى التغيير السلمي الجذري كضرورة تاريخية وصيرورة ارتقائية.