التوازن الدولي الجديد سمات وخصائص ومآلات
خرجت حقيقة وجود طرفين «متراجع - متقدم» في الصراع الدولي، من دائرة التحليل السياسي، والتنبؤ، وأصبحت واقعاً عيانياُ ملموساً، حيث باتت هذه الحقيقة تظهرعلى جميع الجبهات الساخنة في عالم اليوم، وتنعكس في عدم إمكانية الطرف المتراجع« الأمريكي» على الإجابة على الأسئلة التي يطرحها الواقع الموضوعي على جدول الأعمال، مع الانخفاض المستمر في قدراته على التحكم بمسار الأحداث من جهة، ومحاولة الطرف المتقدم« الروسي» ملء الفراغ الناشى من جهة أخرى، وتقدمه المستمر.
إذا كان الطرف المتراجع، يمتلك احتياطات وهوامش للمناورة، وحتى اختراقات في هذه أو تلك من ساحات الصراع، لكنه لم يعد قادراً على تغيير الإتجاه العام في تطور الأحداث، حيث أصبح التراجع هو الاتجاه السائد والخاصية الملازمة لقوى الهيمنة السابقة، بحكم وصول تناقضاتها الداخلية والخارجية إلى مديات عصية على الحل.
إن قدرة القوى المتراجعة على إحداث أية عرقلة واختراق جزئي، بات يعطي مفعولاً عكسياً، إذ تحفز الطرف المتقدم على استخدام احتياطاته الكامنة أكثر فأكثر، والتي تتجدد باستمرار في سياق الصراع نفسه، وتمنحه المزيد من الحيوية، الأمر الذي يؤكد مرة أخرى ما هو مؤكد أصلاً، بأن الطرف المتراجع في مأزق تاريخي، يتلقى الضربات حتى وإن حاول استنهاض قواه هنا أو هناك، باعتبار أن الاتجاه الأساسي بات محسوماً، مما يفتح الباب على عملية تراكم كمي تؤدي إلى تغير نوعي، سيتكثف في لحظة تاريخية ما، بحدث ذي طابع استراتيجي.
بنية طرفي التوازن بنية مركبة، وتحتوي كل واحدة منها على عناصر متداخلة وتناقضات متعددة، بعضها ذات طابع تناحري، حيث لم ترتسم الحدود النهائية على أساس الجذر الاجتماعي- الطبقي للصراع، وتجري ضمنها على الدوام عملية فرز مستمرة، ونجد تموضعاً جديداً لقوى من هذا الطرف في الطرف الآخر أو بالعكس، وحياداً نسبياً ومؤقتاً لقوى أخرى، الأمر الذي ينعكس بتغير متناوب في خريطة التحالفات القائمة، بالتوازي مع تطور الأحداث، وافتراق مستمر في البرامج والسياسات وصولاً إلى استقطاب حاد وصولاً إلى الانقسام والقطيعة، لتتوضح معالم الصراع أكثر فأكثر مع كل تبدل نوعي في عملية الصراع بين القديم والجديد، ولما كان الطرف المتراجع يمثل مصالح أقلية طبقية، تتمثل تحديداً في قوى رأس المال المالي، فإن دائرة تحالفاتها تضيق باستمرار خلال الصراع، وتسقط البروباغندا التي تسوّقها، ولاسيما أنها محكومة بخيار الحرب الذي يجعلها قوة نابذة دائماً.
ستفرض المراحل المتقدمة من الصراع الجاري ضرورة السؤال عن بنية اقتصادية اجتماعية جديدة، نقيضة لما هو سائد من هيمنة، اقتصادية وسياسية وثقافية، بنية تودي بكل خريطة العالم القديم، وتنسفها. بمعنى آخر، إن التوازن الدولي الجديد هو عملية تاريخية، لها طابع الديمومة والاستمرار، كونها تأتي كرد موضوعي على سياسات الاستفرد بالقرار العالمي على مدى عقدين من الزمن، دون قدرة الطرف المستفرد على حل أية مشكلة وأزمة حلاً حقيقياً، لا بل إن بنية قوى الهيمنة «رأسمال المالي» وطبيعتها استوجبت على الدوام، إنتاج وافتعال أزمات جديدة.
الطرف المتقدم
بين الموضوعي والإرادة
إذا كانت القدرة على التنبؤ الصحيح بتطور حركة الواقع هي الشرط الذي لاغنى عنه بالنسبة للطرف المتقدم، وإذا كانت الأزمة العميقة التي تعاني منها المراكز الرأسمالية تخلق الظرف الموضوعي لتقدم روسيا وحلفائها. إلا أن كل ذلك ليس كافياً بل يجب أن يستكمل على الدوام بالإرادة السياسية التي تتطلب توفير الأدوات التي تساعد في التقدم، ومن يتابع النشاط الدبلوماسي الروسي، وإدارته لعملية الصراع، والخطاب الإعلامي المؤثر والمقنع، وتسجيل نقاط جديدة في كل محفل دولي، سيستنتج ببساطة، أنه ثمة عملية متكاملة سياسية وعسكرية وإعلامية وثقافية، تدير الصراع مع الطرف الآخر بمهارة وحرفية عالية.
الرأسمال المالي، قوة رجعية على طول الخط، وخصوصاً التيار الذي يعتمد في التراكم المالي على ريع النشاط الاقتصادي ذي الطابع الإجرامي «المخدرات – السلاح- التجارة بالأعضاء البشرية ...» ومعادله السياسي والثقافي هو الفكر الفاشي الذي يكاد يجهز على ما تبقى من قيم البرجوازية كالعقلانية وغيرها، فالرأسمالية في هذه المرحلة من تطورها هي مزيج من الشايلوكية في الاقتصاد، والغوبلزية في الدعاية والإعلام، والميكافيلية في السياسة، بعبارة أوضح هو الانحطاط بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وهي على هذا الأساس «تحفر قبرها» بيديها، رغم ما تملكه من فرط قوى عسكرية، إذ تقف عائقاً أمام التطور التاريخي الموضوعي، وتوسع بممارستها جبهة الأعداء، وتصطدم بكل ما ابدعته الحضارة البشرية، وعليه فإن الاستقطاب الدولي سيرتسم في الأفق المنظور ضمن ثنائية قوى حرب وقوى سلم، بما يعني تجميع كل القوى الحية من البشرية حول الطرف الصاعد.
إن التكامل بين القوى الصاعدة «روسيا كعملاق عسكري وخزان مواد وثروة- الصين كقوة اقتصادية» محمولة على ثقافة ذات نزعة إنسانية من حيث البنية والتكون والدور، تمتلك كل المقومات الموضوعية لتكون البديل عن «البسطار» الامريكي.
بلدان الأطراف
والتوازن الدولي الراهن
من الملاحظ أن محصلة صراع القوى ضمن النخبة الرأسمالية العالمية، تتأرجح حتى اليوم بين القوى الفاشية والقوى العقلانية، مما يسمح لهذه النخبة، بالتكيف مع التوازن الدولي الجديد تدريجياً، وذلك بما تمتلك من قدرة على المناورة، وتدوير الزوايا، والبراغماتية السياسية، إلا أن البنى التابعة لها في بلدان الأطراف، من الكومبرادور القديم والجديد، داخل الأنظمة وخارجها،وحواملها الثقافية والسياسية، من الذين ظهروا وتبلوروا كشريحة، ضمن منظومة الرأسمال العالمي منذ ما يقارب عقدين من الزمن، تخوض معركة وجود بالمعنى المباشر، وتستميت في «الدفاع» عن مواقعها، وهي مدفوعة بذلك إلى استدامة الحرائق، وتأجيجها، مستمدة قواها من علاقتها المباشرة، مع التيارات الفاشية في المراكز الرأسمالية، أو من خلال عملية التخادم بينهما.
إن هذه الشريحة، ومع تصاعد دور القوى الصاعدة في التوازن الدولي، وإن كانت تشاغب خارج حلبة التوازن الجديد أحياناً لكنها تبقى خاضعة لمزيد من الابتزاز من المراكز الفاشية، لذا من الطبيعي أن تكون أول القوى التي ستدفع الثمن في معركة التشكل النهائي لتوازن القوى الدولي الجديد.