الولايات المتحدة.. خلق المشكلة و(حلها)!
من الطبيعي أن يواكب أي انعطاف تاريخي، وخصوصاً في المنعطفات التي تكون حبلى باحتمال الارتداد المؤقت محاولات اعادة صياغة المفاهيم والآراء والأفكار بما فيها تلك التي اكتسبت درجة اليقين في الوعي الاجتماعي بحكم التجربة التاريخية، وفي هذا الإطار تحاول بعض وسائل الإعلام تسويق فرضية مواجهة الولايات المتحدة للإرهاب التكفيري، خصوصاً بعد قرار مجلس الأمن الأخير لمحاربة داعش، مع العلم أن الإرهاب متعدد الأشكال وفي مختلف المناطق كانت وما زالت صفة ملازمة للسياسات الامريكية منذ نشوئها وحتى اليوم، فما الذي استجد، وهل حقاً أصبحت الإدارة الامريكية في وارد مواجهة الارهاب؟؟!
في الإجابة على أي سؤال وفق المنطق العلمي يتم الاستناد عادة إما إلى التحليل النظري، للوصول إلى استنتاجات صحيحة، أو إلى التجربة التاريخية المتعلقة بهذه المشكلة أو تلك وأطرافها، وبمقاربة فرضية مواجهة الإدارة الامريكية لداعش من وجهة النظر هذه يمكن ببساطة الإجابة بالنفي على السؤال قيد البحث ... لماذا؟
الولايات المتحدة لاتستطيع؟!
البنية الحقيقية الحاكمة في الولايات المتحدة بغض النظر عن الكركوزات التي تظهر على وسائل الإعلام تحت مسمى الرئيس والوزير والسناتور تتكون من مجموعة من أصحاب رأس المال المالي ما فوق القومي، مع الإشارة إلى أن جشع الرأسمال لا يردعه رادع أخلاقي، فهو يبرر لنفسه كل شيء طالما أنه يحقق الهدف الأساسي وهو الربح.. تلك البنية لها مشروعها المعلن الذي يمكن تكثيفه باعادة رسم خريطة العالم بما يتوافق مع مصالحها، حتى لو كان ذلك على جماجم البشر، كونها تمر بأزمة عصية على الحل دون مثل هذا المشروع، أي دون تأمين تلك البيئة العالمية التي تؤمن استمرار هيمنة الدولار، ودون إشعال الحروب التي تمد شرايين المجمع الصناعي العسكري بالدم حتى لايصاب بالسكتة القلبية، بمعنى آخر فإن المنظومة الحاكمة ليس لديها أداة أخرى غير الحرب، بعد أن تجاهلت الخيارات العقلانية الأخرى الذي تحدث عنها بعض منظري الرأسمال منذ عام 2000 .. الجماعات الإرهابية اليوم هي أداة إشعال الحرب وفي ذلك بالضبط تكمن وظيفتها الأساسية، حتى يتسنى لبيوتات رأس المال الاستثمار في هذه الحروب واستمرار الهيمنة، وبالنظر إلى سلوك التنظيمات الإرهابية وخطابها يمكن للمتابع أن يستنتج ببساطة أن كل ما تقوم به يتوافق تماماً مع المشروع الامريكي الفاشي، أي ان المستفيد الأول من سلوك هذه الجماعات هو المشروع الأمريكي، وعليه فإن أية هوبرة إعلامية عن تناقض بين النخبة الحاكمة أو على الأقل المؤثرة بشكل واسع في صنع القرار الأمريكي وبين هذه الجماعات هو وهم وقبض للريح.
فالبنية الحاكمة وبحكم براغماتيتها ومصالحها ليست في وارد الحرب على الإرهاب، كونها تعيش في مأزق بنيوي ويشكل هذا الإرهاب فرصة ذهبية لها لتوظيفه و لتؤمن من خلاله مشروعية أخلاقية على سياساتها وسلوكها في كل ما تقوم به من عربدة في جهات الأرض الأربع، وفي هذا السياق كما نعتقد يأتي ذلك التضخيم و التهويل الإعلامي عن داعش وشبيهاتها والزعم بعدم قدرة أحد على مواجهتها سوى المارينز؟!
تلك البنية التي تتحكم بالقرار الأمريكي لديها من الترسانة العسكرية، والاختراق الاستخباراتي، والمؤسسات المختصة في كل مجال أي أنها تمتلك منظومة هيمنة متكاملة تكونت في فترة صعود دورها بعد الحرب العالمية التانية و بعد أن استحوذت على نتائج تلك الحرب دون مشاركة فعلية فيها، أو على الأقل دون أن تدفع ذلك الثمن الباهظ الذي دفعه الغير، وتستند عليها في محاولة استمرار هيمنتها على القرار العالمي والتحكم بمصيره، إن فرط القوة العسكرية لدى الولايات المتحدة وهشاشة الوضع في الجغرافيا المستهدفة أعمى بصيرة بعض دوائر الرأسمال العالمي ووضعها في موقع الظن بأنها قادرة على الاستمرار في إدارة العالم بالطريقة السابقة، ونعتقد أن التطورات اللاحقة ومنها جملة التناقضات بين جهات صنع القرار يمكن أن تعيد مجانين البيت الأبيض إلى رشدهم.
أسئلة الماضي والحاضر!
تم تصنيع العديد من الحركات الدينية أثناء ما سمي بالحرب الباردة بين الولايات المتحدة و الاتحاد السوفييتي في إطار بروباغندا محاربة «الشيوعية الملحدة» بتمويل سعودي وخليجي عموماً، وتدريب أمريكي وأصبحت هذه الحركات بغض النظر عن تسمياتها المختلفة بقوة التمويل والتدريب قوة مؤثرة ليس في أفغانستان فقط، بل في عموم بلدان الشرق وتزايد هذا الدور بشكل مضطرد مع تقدم المشروع الأمريكي بعد إعلان ما يسمى الحرب على الإرهاب، فالولايات المتحدة التي خلقت المشكلة (الإرهاب) هي نفسها التي تنطعت لمحاربته، ولا يغير من حقيقة الأمر شيئاً كون السعودية أو الاردن أو قطر هي وجه القباحة الآن في دعم داعش وغيرها، فهذه الدول لم تخرج يوماً عن القرار الأمريكي بشكل فعلي، وعليه فإن كل ما تقوم به هو على طول الخط قرار أمريكي، أم سيطلع علينا من يحاول إقناعنا بأن السعودية أو قطر أصبحتا ضد الإرهاب مثلاً، فهذه الدول حتى الأمس القريب كانت تتفاخر وتجاهر بدعم هذه الجماعات المسلحة..
أريد القول إن الإرهاب كممارسة وتنظيمات ولا فرق إذا كان اسمها داعش أو بلاك ووتر، هي بضاعة أمريكية بامتياز، وإذا كان هناك ما تغير في هذا المجال فهو تغير في الشكل والتسميات فقط، أو في أحسن الأحوال تموضعات جديدة للتنظيمات الإرهابية تتوظف من جديد لخدمة المشروع الأمريكي الذي لم يتغير من حيث المحتوى، والتجربة الأفغانية من الذاكرة القريبة تقول إن الولايات المتحدة استفادت من هذه الحركات مرتين: مرة عندما شكلتها ووظفتها ضد الاتحاد السوفييتي، ومرة عندما زعمت محاربتها وتدخلت في جميع دول المنطقة بشكل مباشر أو غير مباشر بهذه الحجة.
ربما يبدو كل ما سبق ذكره من البديهيات في الوعي السياسي، وربما يكون الحديث فيه مكرراً ولكن محاولات تسويق فكرة إمكانية تدخل الولايات المتحدة في الحرب ضد داعش يقود بالضرورة إلى الحديث مرات ومرات عن الدور الأمريكي الحقيقي في إشاعة الإرهاب الداعشي وغيره.
فرضية أخرى
ربما تضطر الولايات المتحدة إلى التراجع والتنصل من هذا الإرهاب، أو حتى تحميل كل وزره لهذا الحليف أو ذاك من حلفائها، بحكم تراجعها على المستوى العالمي على خلفية الأزمة الاقتصادية، وخصوصاً بعد صعود الدور الروسي الصيني، ولكن ذلك لايعفي واشنطن من المسؤولية الأخلاقية والسياسية عن كل ما قامت به أسراب الجراد هذه في عموم بلدان المنطقة، وإذا كان هناك من طريق لممارسة المزيد من الضغط على واشنطن لتقوم بمثل هذا العمل، فذلك يكمن باللجوء إلى الحلول السياسية الداخلية، فهذه التنظيمات مصممة للعمل في أجواء العنف ولا تستطيع العمل إلا في هذا المستنقع الآسن وبالتالي فإنه إلى جانب المواجهة العسكرية مع داعش وأخواتها من قوى التكفير يجب تكثيف الجهود باتجاه حلول سريعة وعاجلة لجملة القضايا التي تستفيد منها واشنطن وداعشيها بمختلف تسمياتهم.