موروث الوجدان السوري تجاه «الأمريكي»
د. عروة صعب د. عروة صعب

موروث الوجدان السوري تجاه «الأمريكي»

يقف السوريون منذ زمن طويل موقف العداء من الاستعمار عموماً، ومن الامبريالية الأمريكية خصوصاً، بكافة أشكالهما العسكرية والاقتصادية والسياسية. ويبرز ذلك على نحو خاص إبان الحظر والحصار الأمريكيين على سورية في فترات متعددة من تاريخها كدولة مستقلة. ويتنامى هذا الموقف اليوم مع تكشف دور الولايات المتحدة في الحرب الدائرة في سورية وخاصة دورها في دعم التنظيمات الإرهابية.

ومن المحطات المهمة في هذا السياق موقف السوريين عشية العدوان الأمريكي على العراق حيث هب السوريون في مظاهرات قل مثيلها في تاريخ سورية المعاصر استنكاراً لهذا العدوان وهاجموا رموز الاستعمار الأمريكي المتمثلة في السفارة الأمريكية بدمشق التي تم إسقاط العلم الأمريكي عنها مرتين في 1999-2000، في تعبير صريح وواضح لا لبس فيه لهذا العدوان، في حين أبدى عدد كبير من السوريين استعداده للتطوع للدفاع عن العراق في مواجهة الغازي الأمريكي.

عُرف السوريون منذ بداية نشأة الوعي الوطني في بدايات القرن العشرين، بمواقفهم الوطنية التي لا غبار عليها والتي تلازمت بشكل حتمي مع العداء للاستعمار الغربي، وعلى رأسه الفرنسي في ذلك الحين.

قبيل الاحتلال الفرنسي

يقول كورنواليس (أحد رجال الاستخبارات الأمريكية) في معرض تحليله للأوضاع في العام 1919 قبيل الاحتلال الفرنسي وإبان استيلاء الفرنسيين على أجزاء من السواحل السورية: «إن رجال السياسة في دمشق يعتنقون مبدأين أساسيين لا ثالث لهما، أولاً يريدون الاستقلال، وثانياً أنهم لا يريدون فرنسا. إن شعور العداء لدى النخبة منهم نحو الفرنسيين عنيف إلى حد يدعو إلى الاستغراب».

لكن مالم يدركه كورنواليس آنذاك أن هذا شعور وطني عام لدى كل السوريين لا يختص بفئة أو بـ«نخبة»، فيوم اجتمع السوريون ليقرروا الخروج في معركة ميسلون، مدنيين وعسكريين، نساءً ورجالاً كانوا يعكسون رغبات وآمال الشعب السوري الطامح إلى الاستقلال، والرافض لأي استعمار كان، وأصبح هذا التميز عقيدة مدنية وعسكرية سورية.

عقيدة مدنية وعسكرية

وطبع هذا التميز بطابعه الجيش السوري منذ تشكيله في ذاك الحين، وأصبح العداء للاستعمار وعلى رأسه الصهيونية عقيدة للجيش السوري، وهذه العقيدة تمتد في جذورها إلى قرار الجيش خوض معركة ميسلون ليقف موقفاً مشهودا له في تاريخ المنطقة وشعوبها عندما دخلها رغم علمه باحتمال خسارتها من الناحية العسكرية، ولكن من الناحية السياسية والشعبية والمعنوية كان يقدر أن أول معركة وطنية ستحدد تاريخ سورية الحديث والمعاصر وستطبعه، إما بتاريخ تخاذلي أو بتاريخ مشرف عريق مقاوم، يشهد له بالصمود والوطنية العالية. واختار الثانية حتماً لأن الشعب السوري لا يقبل الذل والهوان من أي معتد استعماري مهما كان نوع هذا الاعتداء.

لا يحق لأية حكومة..

حتى أن المؤتمر السوري العام أعلن في معرض رفضه لشروط الجنرال غورو المتعلقة بالانتداب ومن خلال قراره الذي صدر بالإجماع أنه «لا يحق لأية حكومة كانت أن تقبل باسم الأمة السورية أي شرط من الشروط التي تخالف قرار المؤتمر التاريخي»، مثبَتاً حتى يومنا هذا الموقف الوطني النابع من أعماق الناس رفضاً للاستعمار.

تقاليد الصمود الوطني

كان رد فعل الحكومة آنذاك هو المباشرة بتنفيذ شروط الجنرال غورو ومباشرتها بتسريح الجيش، إلا أن موقف السوريين المتمثل آنذاك من خلال موقف وزير الحربية يوسف العظمة دفع في النهاية إلى التصدي للجيش الفرنسي الزاحف صوب دمشق فكانت معركة ميسلون في 24 تموز 1920 نهاية حقبة خاصة من تاريخ سورية، وبداية حقبة جديدة مليئة بالتحديات الضخمة، وإرساء لتقاليد الصمود الوطني في وجه المعتدي تلك التي ترسخت منذ لحظة المواجهة الأولى التي قام بها الجيش السوري في وجه المعتدي.

جذرية الموقف من القضية الفلسطينية

هذا الموقف الرافض للاستعمار لم يكن داخلياً بنظرة سورية ضيقة بل امتد إلى ما يجري في فلسطين منذ بدايات تحرك القوى الصهيونية آنذاك فأعلن موقفاً رافضاً صريحاً وواضحاً، مما يدل على جذرية الموقف من القضية الفلسطينية منذ بداياتها، حيث كان في نص القرار أن المؤتمر السوري العام «يحتج على تمكين الصهيونيين من حمل السلاح ونزعه من سواهم... وضرورة إبعادهم عن فلسطين».

من «القسام» إلى بيروت

وساهم السوريون في الحرب التي دارت رحاها بين الفلسطينيين والوطنيين جميعهم من جهة والعصابات الصهيونية من جهة أخرى، حتى احتلال فلسطين في العام 1948، ولا تستطيع كتب التاريخ أن تغفل دور وإسهام عز الدين القسام وغيره.  

وتنامت روح العداء للاستعمار الصهيوني بعيد العدوان الثلاثي 1956 واحتلال الجولان والضفة الغربية وأجزاء أخرى من فلسطين في العام 1967، 

فليست القضية الفلسطينية بالنسبة للسوريين سوى امتداد للموقف الوطني السوري، وليست كما يدعي البعض سياسات ينبغي مراجعتها، مثلما كان إسهام السوريين، جيشاً ومتطوعين من مختلف الأحزاب السياسية الوطنية بمن فيهم شيوعيون، في درء العدوان الإسرائيلي عن لبنان في الثمانينيات من القرن الماضي على العديد من المناطق اللبنانية وأهمها بيروت بكافة الأشكال ومنها تنظيمات المقاومة.

ديمقراطية

وحقوق إنسان وقانون

وكان للدعم الأمريكي غير المحدود والمعلن على الملأ للكيان الصهيوني الدور الأعظم في تنامي الشعور بالعداء للولايات المتحدة وفي شطب كل الدور الذي تروج له إعلامياً على مدى القرن العشرين وما مضى حتى الآن من عمر القرن الحالي، والذي يزعم أن الولايات المتحدة هي «دعامة الدعوة إلى الديمقراطية وحقوق الإنسان وحكم القانون». 

«بلاك ووتر» الداعشية

ولعبت الشركات الأمنية الأمريكية التي عملت في العراق من أمثال شركة «بلاك ووتر» على تعرية السياسة الأمريكية الرامية إلى تدمير البنية التحتية لاقتصاد العراق وتدمير البنية النفسية للشعب العراقي من خلال عمليات التعذيب والاعتقال وتدريب المسلحين المأجورين وزرع النزاعات تحت الوطنية بأشكالها الطائفية والعرقية، كل هذه الممارسات المترافقة مع بشاعات ما جرى في سجن أبو غريب في العراق ومعتقل غوانتانامو في الأراضي الكوبية، كل ذلك زاد في فضحها وإزالة ورقة التوت الأخيرة التي تمثلت في كشف العلاقة الوثيقة للولايات المتحدة بمجمل التنظيمات الإرهابية والتكفيرية التي تعمل في المنطقة، وآخرها تنظيم «داعش».

«رامبو» و«دعاش»

وما ظهر حتى الآن يقول إن هناك قرابة ستة آلاف شخص يتبعون لشركة «بلاك ووتر» الأمنية الأمريكية موجودون ميدانياً في داخل سورية وجوارها لتنفيذ مخططات حلف الاطلسي والولايات المتحدة ودول عربية حليفة لها، ناهيك عن عناصر ضمن هذا التنظيم تتبع مباشرة لوكالة الاستخبارات الأمريكية، تم الكشف عن وجودهم منذ زمن قريب حيث صرح رئيس لجنة الاستخبارات في الكونجرس الأمريكي مايك روجرز، في نهاية آب 2014، بأن مئات الأمريكيين هم أعضاء في صفوف تنظيم «داعش» الإرهابي، مما يفسر التناغم والتقارب الظاهر للقاصي والداني بين ممارسات هذا التنظيم وممارسات المعتدي الأمريكي من جيش أمريكي أو شركات أمنية خاصة في العراق كما شهدناها على مدى العقد الماضي مع الممارسات الوحشية التي يقوم بها تنظيم «داعش»، وتبدو كل محاولات الولايات المتحدة اليائسة لإظهار نفسها في صورة «رامبو» محارب الإرهاب فاشلة كل الفشل، ومكشوفة للسوريين ولا تزيد الاستعمار الأمريكي إلا تعرية أمام أعيننا.

آخر تعديل على الأحد, 07 أيلول/سبتمبر 2014 02:19