فلسطين والمعادلات الجديدة
يستمر الشعب الفلسطيني، وفي طليعته أبناء غزة، ومقاومتهم المسلحة، في ردهم على الطور الجديد من العدوان الصهيوني المستمر في فلسطين المحتلة منذ عقود. ورغم أنّ القضية الفلسطينية تحمل في داخلها ما يكفي من العوامل التي تبقيها مشتعلة وفي واجهة الأحداث طوال الوقت، فقد تم تغييبها نسبياً بحكم ما تشهده دول المنطقة من تطورات داخلية خاصة بها،
ولكن الثابت أنه لا يجوز فصل تطورات هذه القضية عن الصدام الدولي الجاري، كما لا يجوز اختزال مسوغات العدوان الأخير بمسألة المخطوفين الصهاينة أو غيرها من المسائل الجزئية، كون القضية الفلسطينية اليوم عموماً، والعدوان على غزة، خصوصاً يرتبطان قضايا وملفات إقليمية ودولية عدة ومتشابكة:
أولاً، إنّ المعيق الوحيد أمام الولايات المتحدة والكيان، في محاولتهما فرض «حل» ما للقضية الفلسطينية، كان ولايزال خيار الكفاح المسلح، بالدرجة الأولى.
ثانياً، نضجت في غزة خلال الصمود والرد على الصهاينة، في هذا العدوان وما سبقه من اعتداءات على لبنان وفلسطين تحديداً، منذ 2006، نواة مقاومة ثابتة تشبه المقاومة اللبنانية من حيث خطورتها على الكيان الصهيوني سياسياً وعسكرياً. بل إن الوقائع تقول إنه منذ أيار عام 2000، تاريخ الهروب المذل للمحتل الصهيوني من جنوب لبنان، بدأ موضوع هزيمة «إسرائيل» يتحول إلى قاعدة ثابتة ومتكررة.
ثالثاً، إن هذه القاعدة ضمن معادلات اليوم المرتبطة بتظهير ميزان القوى الدولي الجديد تشير إلى أنّ هذا الميزان يتثبت باتجاه إمكانية إيجاد حل حقيقي للقضية الفلسطينية على أساس رضوخ المنهزم الإسرائيلي أمام الحقوق الثابتة للشعب الفلسطيني، بفضل مقاومته المسلحة، أولاً.
رابعاً، كما أنّ الظرف الراهن، هو القاعدة المثلى لتوحيد الصف الفلسطيني على أساس البرنامج الوحيد الذي يجري على الأرض، أي على أساس برنامج المقاومة، بعيداً عن تحاصص «السلطة» أو مشتقاته.
خامساً، إنّ تزامن الهجوم الصهيوني على غزة مع هجوم «داعش» في العراق وتمدده في سورية مؤخراً، بالتوازي مع ارتفاع نبرة الخطاب الأمريكي في الأروقة الدولية عن «محاربة الإرهاب»، يشي بمحاولة أمريكية دنيئة لوضع «داعش» وفصائل المقاومة الفلسطينية ضمن سلة «إسلامية» واحدة، لتضيف بذلك إلى عملية «الحرب الأمريكية على الإرهاب»، عدا عن الشكل الطائفي الذي اشتغلت عليه مؤخراً، شكلاً جديداً من «صراع الحضارات» في محاولة لتبديل الأوراق على المستوى الإقليمي على حساب شعوب المنطقة مجدداً.
سادساً، في السياق ذاته، وبهدف فك الارتباط الجغرافي- السياسي بين غزة ومصر، تعمل بعض الأطراف الإقليمية مثل قطر وتركيا وحتى بقايا نظام مبارك سياسياً وإعلامياً في مصر ذاتها، على الترويج لمقولة مفادها أنّ علاقة غزة مع مصر لم تكن، ولا تصلح إلا أن تكون، علاقة الإخوان مع الإخوان! وإن هذا الطرح بتداعياته الجغرافية السياسية شديد الخطورة على الوضع الفلسطيني برمته، وهو كفيل بخنق غزة نهائياً وإطفاء أي جذوة للمقاومة فيها.
إنّ العدوان الصهيوني الراهن، يمثل فرصة حقيقية لرأب الصدع الفلسطيني الداخلي، وتوحيد الجهود على خط المقاومة، لأنّ شكل العلاقة القائمة بين الفصائل ودرجة تفاهمها ستكون المحدد الأساسي لعملية تثمير الصمود والنصر الفلسطيني العسكري سياسياً، فقد سبق للفلسطينيين أن قدموا التضحيات الكبيرة وحققوا انتصارات عسكرية لم تثمر سياسياً، إما لأن الظرف الدولي لم يسمح، أو لخلافات الفصائل فيما بينها، والتجاذبات الإقليمية الضاغطة عليها. ولكن ظروف اليوم انطلاقاً من التوازن الدولي الجديد تشير إلى أنها أفضل بكثير من ظروف خمسين عاماً مضت.