ما وراء الاحتقان الذي تفجر على شكل احتجاجات شعبية.... طلاب الاقتصاد: سياسة الانفتاح واللبرلة أدت إلى تدمير الاقتصاد الوطني..
ترافق الانفتاح الاقتصادي في سورية في العقد الأول من القرن الحالي باتساع ظاهرتين وتعمقهما وممارستهما على العلن بشكل فجٍّ ومشرعن، بعد أن كانتا تمارسان بشكل مبطن ومستتر على مدى عقود طويلة، الظاهرة الأولى ظاهرة الفساد بمختلف أنواعه واستغلال المنصب والنفوذ لتحقيق المكاسب والأرباح الشخصية الفاحشة على حساب ميزانية البلاد ولقمة عيش المواطن، والظاهرة الثانية هي غياب المحاسبة وعدم توفير فرص متكافئة وعادلة بين أفراد المجتمع وقطاعاته وشرائحه للمساهمة في دعم الاقتصاد الوطني، بل أعطيت الفرص الكبيرة للمتنفذين والمستثمرين الوهميين دون غيرهم، ما جعل الثروة الوطنية عرضة لنهب أيدٍ قليلة، على حساب فقر الشرائح الواسعة من الشعب السوري وقواه المنتجة.
وقد أدى الانفتاح الاقتصادي على الأسواق الخارجية إلى خلخلة الاقتصاد السوري وتفتيته، ما جعل أقسامه الرئيسية عرضة للاستغلال والتقاسم بين حيتان المال والتجارة، وتحول الاقتصاد السوري إلى مجموعة متناحرة من الأجزاء المبعثرة غائمة الهوية، ولم يعد الأمر مقتصراً على القطاعين العام والخاص، بل ظهر إلى جانبهما قطاعات أخرى غير واضحة الملامح والأسماء، كالقطاع المشترك الذي يقوم على المشاركة بين رأس المال العام ورأس المال الأجنبي أو الخاص، والقطاع المختلط الذي يقوم على المشاركة بين رأس المال الخاص المحلي ورأس المال الأجنبي، وبالتالي أصبح الاقتصاد السوري منقسماً إلى قطاعات متناقضة لكل منها قواعده وأساطينه وآلياته الخاصة، مثل السوق الخاصة لكل اقتصاد، وقواعد خاصة بالتسعير وتشغيل العمال والأجور والتحويل... إلخ. ولعل الخلل في الاقتصاد السوري حالياً ما هو إلا مقدمة لانهيارات محتملة لاحقة إذا استمرت الحكومة الجديدة بمتابعة النهج الليبرالي وتخليها عن دورها الرعائي، وتسليم زمام الاقتصاد للقوى الفاسدة التي ليس لها هم سوى الربح الفاحش السريع، ومع رسوخ هذا النمط سوف تتحالف القوى التجارية والاستثمارية الريعية والمالية والتكنولوجية على ربط البلاد بتقلبات السوق الخارجية، بما يعني استمرار تبعية الاقتصاد للخارج وتشوهه، واستمرار تخلفه جوهرياً.
انعكاس الانفتاح الاقتصادي على الحياة اليومية
لمعرفة بعض آثار الانفتاح الاقتصادي في سورية على الأسواق الداخلية في العقد الماضي، كان لابد من البحث والتساؤل مع العارفين بالأمور والمهتمين بربط الأسباب بالنتائج. وفي كلية الاقتصاد والتجارة بجامعة دمشق التقينا عدداً من الطلاب كان موضوع حلقات بحثهم «الانفتاح الاقتصادي في سورية، آثاره ونتائجه» وسألنا عن الآثار السلبية لهذا النهج، وأفادوا بالتصريحات التالية:
ـ طالب كان موضوع حلقته (الانفتاح الاقتصادي وأثره السيئ على القطاع العام) قال: «هناك عدة آثار سلبية خطيرة انعكس بها الانفتاح الاقتصادي على القطاع العام في سورية، نلخصها بما يلي:
1ـ أدى الانفتاح إلى إضعاف القطاع العام وتهميش دوره، بعد أن كان الركيزة الأساسية وقاطرة نمو حقيقية، وكان الأداة الفعالة للسيطرة المركزية على الاقتصاد، والسند الرئيسي في انتهاج التخطيط، علماً أن القطاع العام لم يتعرض للتصفية النهائية، ومن الممكن إعادة دعمه وإحيائه واستعادة دوره في قيادة قاطرة النمو الوطني.
2ـ أدى الانفتاح إلى ظهور مراكز قوى اقتصادية جديدة، وظهر فاسدون ومنتفعون ومتنفذون اكتسبوا هيمنة لا يستهان بها، وسيطرة وقدرة على توجيه السياسات الاقتصادية ووضع القرارات العامة.
3ـ أدى الانفتاح الاقتصادي إلى نمو هش أدى إلى تمركز الثروة أكثر بأيدٍ قليلة ومحدودة، وتميز النشاط الاقتصادي بالاستثمارات الخدمية بالدرجة الأولى لم تكن الأولوية فيه للقطاعات السلعية كالزراعة والصناعة، وإنما للقطاعات غير السلعية كالتجارة والتوزيع والمضاربات المالية والإسكان الفاخر والنقل الخاص وسياحة الأغنياء، والاستثمار في الثروة النفطية والاتصالات، والملاحة العالمية، والاستثمار في المرافق الحيوية الحساسة كالموانئ والمطارات، وكل هذه الاستثمارات هشة وهي دائماً مرهونة بالأجانب.
4ـ أدى الانفتاح إلى تفشي الطفيلية التي اتخذت صوراً عديدة مثل استغلال النفوذ السياسي والإداري والرشوة والتواطؤ مع القطاع الخاص على حساب تدمير القطاع العام، والمضاربة في الأراضي والمباني، وتضخيم الأزمات، والاتجار في السوق السوداء والتهريب، والتهرب من دفع الرسوم والضرائب الجمركية، والاستيلاء على أموال الدولة.
5ـ إن الانفتاح الاقتصادي أدى إلى اغتيال التخطيط الاقتصادي، حيث لم يعد القائمون على تنفيذ سياسة الانفتاح مهتمين بوضع القوانين والتشريعات والخطط لتحقيق معدلات نمو حقيقية ضمن الخطط الاقتصادية، بل اكتفى أولو الأمر بمراقبة الحركة الاقتصادية، والالتفات إلى تحقيق ( أو هبش) أكبر قدر ممكن من الأرباح في هذه الفورة المؤقتة».
رفع الدعم أحد مظاهر الكارثة
ـ أحد الطلاب قال: «إن الآثار الشاملة لسياسة الانفتاح خطيرة جداً على المجتمع وعلى الحياة المعيشية اليومية لعموم المواطنين، إذ لم يكن الانفتاح الاقتصادي مجرد إجراءات اقتصادية، بل امتدت آثاره إلى جوانب كثيرة من حياتنا، وتغلغلت في أجزاء عديدة من الكيان الاجتماعي، فالانفتاح غير المدروس كان السبب في عجز الحكومة عن متابعة دعمها للسلع الأساسية الغذائية والمحروقات، الأمر الذي سبب شرخاً كبيراً بين الحكومة والمواطن الذي امتلأ صدره بالاحتقان والغيظ من تصعيب لقمة العيش عليه».
ـ طالب آخر قال: «كان للانفتاح الاقتصادي غير المدروس وغير العادل الآثار السيئة على كافة المجالات الاقتصادية، ففي الزراعة ارتفعت أسعار توريد الحاصلات الزراعية الرئيسية وأدوات الزراعة ومستلزماتها التي يتحكم بها التجار بعيداً عن رقابة الدولة أو تدخلها، وهذا ما سبب زيادة عجز الدولة عن دعمها للسلع الأساسية التي تدخل الخامات الزراعية في إنتاجها، أما في مجال الصناعة فقد أدى استيراد المواد المصنَّعة من أثاث وأقمشة وغيرها إلى ضرب الصناعة الوطنية، وتوقفت الكثير من الورشات والمعامل الصغيرة، ما أدى إلى قطع أرزاق آلاف المواطنين العاملين فيها، وانضمامهم إلى جيش العاطلين عن العمل».
ـ طالب ثالث قال: «أما في مجال التجارة، ونتيجة تحكم بعض المتنفذين بمنافذ الاستيراد والتصدير، فقد أدى الانفتاح الاقتصادي المقترن بالفساد الإداري إلى تصاعد معدلات الواردات بشكل كبير، وتم إغراق السوق بالسلع الرخيصة التي ضربت الاقتصاد الوطني بكل فروعه، وجاءت استثمارات خارجية، وثبت فيما بعد أنها لم تأت برؤوس الأموال إلى سورية إلا لتحولها أضعافاً مضاعفة إلى الخارج حيث مراكزها الرئيسية، لأن إستراتيجية تلك الشركات المستثمِرة في التمويل من السوق المحلية، ثم تحويل الأرباح والعوائد ورسوم الإدارة والتكنولوجيا للخارج، فضلاً عن ممارساتها المالية التقليدية في التهرب الضريبي بمساعدة الفاسدين المحليين، وفرض أسعار تمويل لتجارتها بعيدة عن واقع الأسعار العالمية، لنجد أن ما تحوله هذه الشركات كل عام إلى الخارج يتجاوز بكثير التدفقات الجديدة لرؤوس الأموال الضرورية للتنمية».
ـ طالب آخر قال: «تراجع حجم الصادرات وتعاظمت قيمة الواردات، واحتدمت مشكلة الغذاء واستُنزِفت مصادر البترول، واتسم الاستثمار الأجنبي بضعف التكنولوجيا المصاحبة له، وتفضيله لأنشطة غير إنتاجية، فرغم تعاظم موارد الاستثمارات الخارجية وتوسع قنواتها فإنها لم تحل مشكلة البطالة، وزاد اختلال هيكل العمالة مع هجرة العمالة الماهرة والمتخصصة إلى الخارج. ومع ذلك فقد اضطرت الحكومة لتشجيع الاستثمار الأجنبي الذي لم يوظف التدفق الواسع لرؤوس الأموال بما يستجيب للأولويات الوطنية ويخلق طاقات إنتاجية وسلعية، بل توجه إلى النواحي الخدمية والمضاربات المالية والعقارات. مع أنه يجب أن يكون السبب الرئيسي لاستقبال الاستثمارات الخارجية هو القضاء على مشكلة البطالة وخلق فرص عمل جديدة».
ـ معيد في الكلية قال: «تمثلت السلبيات لتدفق الاستثمار الأجنبي إلى سورية في استحواذ هذه الاستثمارات على نصيب الاستثمارات المحلية، وهذا يعني أن الاستثمارات الأجنبية تزاحم الاستثمار المحلي وتقضي عليه شيئاً فشيئاً، وفي حال عدم قدرة الشركات المحلية على منافسة الاستثمار الأجنبي، كما حصل للكثير من شركات القطاع العام الهامة التي تم تخسيرها عمداً ونهبها تمهيداً لخصخصتها أو إعطائها للاستثمار الأجنبي الذي استطاع الاستحواذ على الشركات المتعثرة من خلال مساهمته في إدارتها».
ـ معيد آخر في الكلية قال: «إن للانفتاح الاقتصادي في سورية، والذي اعتمد على الاستيراد وضرب الصناعة الوطنية والزراعة، واستقدام الاستثمارات الأجنبية، آثار سلبية كبيرة أدت إلى أزمات متسارعة في الحياة المعيشية اليومية، أولها تقليل فرص العمل والتشغيل، وإحداث اختلال في التوازن التنموي والخدمي بين مختلف المناطق، وكذلك وجود الاستثمارات الأجنبية قد أدى إلى اختفاء بعض أنواع المهارات التقليدية نتيجة استخدامها لتكنولوجيا متقدمة، أدى وجودها إلى عدم ثبات العمالة الموسمية، كذلك فإنه نتيجة لارتفاع مستوى الأجور والمكافآت التي تقدمها الشركات الأجنبية بالمقارنة مع الشركات الوطنية المحلية، فإنه من الممكن أن تؤدي إلى هروب العمالة والمهارات الفنية».
الإتجار بالبشر وعودة الرقيق
طالب كان موضوع حلقته استيراد العمالة والقرصنة البشرية قال: «إن من سلبيات الانفتاح الاقتصادي الذي انتهجته الحكومة في العقد الماضي ولادة شركات خاصة ووكالات ومكاتب تشغيل خاصة تقوم باستيراد اليد العاملة الرخيصة وبيعها للشركات والمنازل، وفي كل الحالات تخضع هذه العمالة لقرصنة تلك الشركات والوكالات والبيوت المشغلة معاً، فالمكاتب تقطع نسبة من أجورهم تصل حتى 50%، وأماكن التشغيل تستغلهم وتتحكم بهم كالعبيد والرقيق وتطبِّق عليهم أبشع الممارسات خارج قواعد العمل الدولية وبعيداً عن الرقابة والمحاسبة، ومكاتب استيراد العمالة تفرض إجراءات خاصة في حال إخلال العامل بعقد التشغيل، ولا ينطبق على هذه الإجراءات سوى تسمية (القرصنة الجديدة)، وظاهرة العمالة الوافدة تحولت إلى قطاع تجاري مربح للشركات الخاصة والمكاتب التي تستبعد العمالة المحلية وتغذي تفشي البطالة بين المواطنين، والقاعدة الأساسية لعمل هذه الشركات والمكاتب هي الإتجار بالبشر (أي ظاهرة رقيق جديدة)».
المطلوب اقتصاد
التنمية والعدالة الاجتماعية
شكلت ظاهرة انتشار الفقر واتساع شرائحه وتعمق مؤشراته، وتدهور أحوال مختلف فعاليات المجتمع مظهراً فاضحاً لليبرالية الجديدة وعولمة الاقتصاد السوري، واتخذت التحولات الاقتصادية شكلاً مأساوياً بعد ظهور طفيلية هامشية انتهازية استفادت من هذه التحولات بطرق مختلفة وكوَّنت ثروات على حساب الفقراء وجماهير العمال، مذعنة بذلك لوصفات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ونصائح الشركات الكبرى ودولها، والتي لاقت أرضية خصبة وتجاوباً عند المخططين الاقتصاديين الذين كانوا ركيزة الهجوم على الدولة من الداخل، لإضعافها في مواجهة المخططات والاستراتيجيات التي تعدها القوى الإمبريالية ـ الصهيونية للنيل من صمودنا وأمننا وتطورنا. وقد ظهرت حقيقة الليبرالية الجديدة المتوحشة التي تكشفت مساوئها وما جرَّته من الويلات والخلل الاقتصادي الاجتماعي، وأضاعت الكثير من مكاسب العمال، وزادت من اتساع وعمق معدلات الفقر والبطالة، وضربت الكثير مما أنجز خلال الفترات السابقة رغم الإنجازات الخجولة في الماضي .
ترافق ذلك مع غياب سلطة القانون والضوابط في اقتصاد السوق مما زاد الفضائح المالية والانحرافات القانونية المترافقة مع عمليات الخصخصة وتدمير القطاع العام، وتحرير التجارة والخدمات، وإلغاء الضوابط المنظمة للحياة الاقتصادية، وتقليص دور الدولة في الاقتصاد والمجتمع إلى أدنى حدود. إن انتهاج هذه السياسات قد أدى إلى الاحتقان الشعبي وإلى المزيد من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية، وإلى التفكك والضعف وعدم القدرة على صيانة أمن الوطن والمواطن، فهل ستتابع الحكومة الجديدة النهج الاقتصادي الذي أوصلنا إلى هذه الأزمات؟ أم أنها ستعتمد خططاً تأخذ في أولوياتها التنمية والعدالة الاجتماعية وحفظ كرامة وأمن الوطن والمواطن؟!!