مجدّداً.. أمريكا «المغرّر» بها!
ترتدي اليوم مسألة العلاقة بين الولايات المتحدة الأمريكية وأدواتها الفاشية في منطقتنا والعالم أهمية استثنائية، ففي ظل التوافق بين التيارين «العقلاني» والفاشي في الإدارة الأمريكية حول الحفاظ على مواقع أمريكا الدولية، والصراع بينهما حول أداة تحقيق ذلك، تجري عملية إعادة ضبط وتوليف الأدوات الفاشية مجدّداً. وفي هذا السياق تأتي مجموعة الضغوط التي يمارسها الساسة والإعلاميين الأمريكان على الحكومة التركية
بدأت الإدارة الأمريكية مؤخراً تعمل على ضبط وإعادة توليف أدواتها في منطقتنا؛ الكثير من المعطيات تدفعها إلى ذلك: فشل سيناريو التدخل العسكري المباشر في سورية، واستمرار عجز «حلول» التدخل العسكري غير المباشر عن إحداث تغييرات جدية في موازين القوى، التراجع في غير ملف على المستوى الدولي، أوكرانيا ومصر مثالاً، وبروز وتثبّت نهج التسويات الدولية حول العديد من القضايا العالقة في بقاعٍ مختلفة من العالم. كل تلك التطورات حَدَت بالإدارة الأمريكية، أو بجزءٍ منها، للذهاب نحو إعادة ترتيب قواها، وتوزيع الأدوار من جديد. وفي هذا السياق تأتي مسألة تنحية قطر عن واجهة الصراع في سورية، بدرجة ملحوظة، بالإضافة إلى جملة التغييرات في الطاقم السعودي الذي يتولّى إدارة «الملف السوري»، ودفع السعودية باتجاه التهدئة مع إيران التي انعكست على نحو واضح في لبنان..
الحكومة التركية ضمناً..
وفي السياق ذاته أيضاً، تأتي مجموعة الضغوطات على حكومة أردوغان في تركيا، والتي ظهر منها ثلاث أزمات أساسية، أولاً: قضية التسجيلات المسرّبة عن كبار المسؤولين الأتراك، وهم يبحثون في مسألة افتعال ذريعة للتدخل العسكري في سورية. وثانياً: نشر فضائح متعلقة بقضايا فساد في مواقع التواصل الاجتماعي، تلتها خطوة تصعيدية من جانب أردوغان وحكومته تمثّلت بحظر تلك المواقع. وثالثاً: التقرير الذي نشره الصحفي الأمريكي سايمور هيرش والذي كشف فيه عن تورط حكومة أردوغان في استخدام السلاح الكيماوي في الغوطة الشرقية، في آب الماضي.
وفي المسألة الثالثة تحديداً، فضيحة الكيماوي، يظهر الدور الأمريكي واضحاً في كشف مجمل فضائح أردوغان وحكومته؛ ذلك أن تقرير هيرش يستند في مقاطع أساسية منه إلى معلومات جرى تداولها بين المخابرات البريطانية والقادة العسكريين الأمريكان، وإلى إفادات وتقارير مسؤولين في وكالة الاستخبارات الأمريكية. بالإضافة إلى انتقال صدى ذلك التقرير إلى داخل الكونغرس الأمريكي، في نقاشٍ دار حول مسألة تورّط أردوغان وحكومته في استخدام الكيماوي، والذي وجّه فيه بعض أعضاء الكونغرس نقداً لأوباما، مفاده أن الأخير كان على وشك توريط الولايات المتحدة بحرب على سورية لأسباب «تضليلية» ابتدعها أردوغان.
هيرش: الصحفي «الاستقصائي»!
لم تلقِ معظم الصحافة العربية بالاً إلى مسألة أن تقرير هيرش يعكس جزءاً من خطاب الإدارة الأمريكية في أحد أكثر منابره خصوصية، ونقصد بذلك منبر «الصحافة الحرّة»، والتي هي بحسب الاعتقاد الصحفي المبتذل، حصيلة «براعة» صحفييها «المخضرمين»، الذين يحصلون على المعلومة من مصادر ذات موثوقية عالية، غالباً استخبارية، ويترتب على نشرها تغيير سياسات بلدان كبرى مثل أمريكا. بل أن جلّ ما أخذه الإعلام العربي من هذا التقرير، وبالأخص الإعلام الممانع، هو فقط معلومة أن أردوغان هو من وقف وراء استخدام السلاح الكيماوي في الغوطة الشرقية، واستخدم هذه المعلومة كما وردت في تقرير هيرش في السجال اليومي مع إعلام المعارضة والأطراف الإقليمية الداعمة لها. حتى أن البعض ذهب إلى تصوير هيرش على أنّه بالأساس مناصر للقضايا الإنسانية، وأن كشفه للتقرير المذكور يأتي في هذا السياق.
منذ عدّة عقود، عندما كانت الإدارات الأمريكية المتعاقبة تقع في أزمات سياسية أو عسكرية، كثيراً ما كانت تفرج في توقيتات محدّدة عن بعض الأصوات المشكّكة في سياساتها، وفي غالب الأحيان كانت تفرج عن معلومات تستعرض أخطاءها السياسية والعسكرية؛ وكانت تلجأ إلى ذلك لسببين أو لأحدهما، الأول: تمهّد بذلك لتراجعها عن سياساتها الخاطئة، وإظهار ذلك التراجع على أنه انتصارٌ لـ«الديمقراطية» الأميركية. والثاني: تحميل أطراف بعينها مسؤولية فشل سياساتها، سواء من داخل الإدارة أو من القوى المتحالفة معها. في هذا السياق يأتي تقرير هيرش حول الأسلحة الكيميائية، بل وتقاريره السابقة أيضاً، والتي كان أبرزها تقرير حول فضيحة الانتهاكات بحق السجناء العراقيين، في سجن أبو غريب، وفي حينه مهّد هذا التقرير عملياً لبداية الانسحاب الأميركي من العراق، فضلاً عن الدور الذي كان مطلوباً منه في «تخويف» المقاومة العراقية، التي كان نشاطها المسلّح ضد الاحتلال الأمريكي في أوجه. بالإضافة إلى تقرير هيرش حول مجزرة ارتكبتها قوات الاحتلال الأمريكي في فيتنام، والذي مثّل عملياً منطلق الحملة «الرسمية» الأميركية المناوئة للحرب على فيتنام. ومن الجدير بالذكر، والطريف أيضاً، أن وزير الخارجية الأميركية الحالي جون كيري كان أحد زعماء تلك الحملة في الحركة الطلابية الأمريكية.
أمريكا «تتبرّأ» من أردوغان..
ينطوي تقرير سايمور هيرش على العديد من الإشارات الضمنية والمعلنة التي تظهر الإدارة الأمريكية بمظهر «الغافل» عن «عبث» الحليف أردوغان. أكثر تلك الإشارات أهمية هي أن قراراً أمريكا بالعدوان على سورية له سبب وحيد- يسمّيه هيرش «خطّاً أحمراً»- هو استخدام النظام السلاح الكيماوي، وليس لمقتضيات حسم المعركة عسكرياً في سورية من وجهة النظر الأمريكية. ومن جهة أخرى، يؤكّد هيرش في تقريره أن اكتشاف المخابرات البريطانية ومن ثم الأمريكية أن السلاح المستخدم ليس من ضمن ترسانة سورية الكيماوية كان سبب العدول عن العدوان، وليس أن ميزان القوى الدولي وقتها منع ذلك العدوان. إضافة إلى إشارة استدراج أردوغان لأوباما إلى «خطّه الأحمر».. ولا يتسع المجال هنا إلى مناقشة بقية الإشارات، الكثيرة، الواردة في التقرير. ولكن ما يهم استنتاجه من هذا التقرير، وبقية الفضائح التي نُشرت بالتوازي عن حكومة أردوغان، أن سعي بعض الأطراف في واشنطن لإعادة فتح هذا الملف يأتي في سياق الصراع بين التيارين «العقلاني» والفاشي في الإدارة الأمريكية، ويهدف إلى تحقيق أكثر من هدف، أبرزها أن أمريكا ستكون بحلٍ من ممارسات الأدوات الفاشية في سورية، وذلك في ظل الواقع الذي تتعرّض فيه تلك الأدوات إلى التطويق موضوعياً في ميزان القوى الدولي الجديد، والذي ظهرت شواهده في غير مكان من العالم.
الفاشي و«العقلاني»: توافق وصراع
بشكلٍ عام، يبدو التناقض واضحاً بين التيارين «العقلاني» والفاشي في الإدارة الأمريكية حول أدوات وأداء العديد من أدوات الفاشية في منطقتنا والعالم، ومنها أردوغان؛ إذ يرى التيار «العقلاني» أن الحد من تأثير تلك الأدوات، بعد الاستفادة من خدماتها، بات ضرورياً، ولاسيما عندما تتحول ممارسات تلك الأدوات إلى أعباء على وضع الولايات المتحدّة دولياً، في حين لا يزال التيار الفاشي يراهن على «حلول» التي تقدمها تلك الأدوات في تطويق الخصوم الدوليين ولجمهم.
ولكن، في الخصوصية التركية، يوجد أيضاً توافق بين هذين الطرفين حول إبقاء السيف مسلطاً على الحكومة التركية، والتي يدفعها الواقع الدولي الجديد بدورها، فضلاً عن الضرورات الاقتصادية، إلى انجاز تقاربات معينة مع موسكو وطهران، وخصوصاً في الجانب الاقتصادي. هذا الأمر بالتحديد، حدا بالتيار الفاشي في الإدارة الأمريكية ليس فقط للتوافق مع «العقلاني» حول توتير الوضع التركي، بل والبحث عن بدائل فاشية في الداخل التركي، ولعل تسليط الضوء على فتح الله غولِن، كـ«معارض إسلامي» للحكومة التركية يأتي في هذا السياق.